السبت  04 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مملكة الوسواس/ بقلم: د.المتوكل طه

2017-03-22 04:16:43 PM
مملكة الوسواس/ بقلم: د.المتوكل طه
المتوكل طه

 

أكتبُ لأمَزَّقَ !

قد يحملُ أحدٌ أوراقي للنارِ ، تماماً ، مثل نهايةِ كلِّ روائيٍ ،

مَثّالٍ ،

رسّامٍ ،

زِريابٍ ،

قَصّاصٍ ،

ساحِرْ ..

وحتى لو ظلَّ قليلٌ من مِزَقِ الصفحاتِ، سيلقيها العاملُ في جوفِ الحاويةِ، كما نحنُ الآن بقلبِ الأوساخِ ..

فأين الجَنّةُ كي أودِعَها حَرفِي المذبوحَ ، وأين الفردوسُ الأعلى .. لأُصَعِّدَ فيه كتابي الخاسر ؟

حَرْفي سِكّيرٌ ملعونٌ .. وقبيحٌ فاجِرْ .

وسُطوري سوداءُ .. كحظّي المَمْسوسِ العاثِرْ .

ومِدادي مِن دمعِ الصَّنَمِ الوثنيِّ ، أُغمِّسُ قلمي السيّالَ به ، وأروحُ أَخُطُّ ، فيظهرُ من بين خطوطِ الحِبْر .. الشيطانُ !

فأسأل : أنتَ الكامنُ خلفَ الوحيّ؟

فقال : أنا الضَحّاكُ الساخِرُ والنّاهي الآمِرُ ،

أو ما شئتُ أكونُ ، أَخِرُّ بشريانِ البهجةِ فَأُعَكّرُهُ بالملحِ، وأُعطي أولادي الأوهامَ الصُّلبةَ ، وأُراقِصُ أضواءَ الصوفيِّ ، وأعرفُ خاصرةَ الطينِ، فهل تعرفني الآن ؟ أنا الشغفُ الماكِرُ والماضي الحاضر ..

ومضى !

***

حاولتُ لأنْ أتركَهُ ، وأكونُ أنا الوحيُ لنفسي !

فجمعتُ خيولي ، وشققتُ بها صدري ، وعبرتُ إلى عتماتِ الرّوحِ ، وغاباتِ العقلِ وبركانِ القلبِ ، وقلتُ ؛سأبحثُ عن نبعٍ بشريٍ لِدَواتي ،

وسأنزعُ ريشةَ عَظْمٍ أجعلها قلمي ..

ورجَعتُ إلى الأوراقِ ، ورحتُ أُدَبِّجُ ما يَرِدُ من الإلهام أو السّحرِ،

لأبدوَ مثلَ الحَبَّارِ الماهرْ ..

فكتبتُ ، ورحُتُ ، وعُدْتُ ، ومزّقتُ ، وأصلحتُ ، وشطَّبتُ ، وأبقيتُ ..

وأعَدْتُ قراءةَ ما انداحَ على الصفحاتِ ، فأيقنتُ بأنَّ فؤادي مملكةُ الوسواسِ ، وبأنّي الشيطانُ الكافِرْ .

***

خفتُ! فيومُ الْحَشْرِ حسابٌ لا يرحمُ ؛ وديانٌ للنّارِ ، وحيّاتٌ تعقصُ ، ولظىً يشوي الأبدانَ ، وماءُ اليحْمومِ ، وكُلّابٌ حامٍ ، وبقاءٌ بسَعيرٍ سافِرْ !!

قلتُ : فماذا أفعلُ ؟ أُلقي القلمَ بعيداً عنّي؟

لا ، بل أكتبُ ما يرضي اللهَ تعالى ؛ مَنْ أعطاني أغنيةَ الليلِ ، ولحنَ الجُرحِ ، وفوضى الأزهارِ ، وأمزجةَ الأنهارِ ، وجرأةَ أوتارِ العُودِ، وتيهَ النجماتِ ، ولَمَّةَ أغرابٍ كانوا أصحاباً ، قبلَ عثورِ السّرجِ على الحافِرْ .

مَنْ ساقَ إليّ العِطْرَ ، وأعطاني النسغَ المُعْجزَ ،وأسال الشمسَ على أعرافِ الطفلِ ، وفَتَّحَ أبوابَ القلعةِ قبلَ رياحِ الجِسرِ ، وأرجعني للمهدِ ، وأنْعَمَ بالغَبشِ الذهبيِّ على النايِ ، وبالجَمْرِ الفيّاضِ على التفّاحِ، وبالخمرِ السُلطانِ على النُسّاكِ، وبالنارنْجِ المصهورِ على التَّلّينِ ، ونهرٌ بينهما يتلعثم بالماء .. وقال ؛ اخرُجْ للأرضِ ؛ ستلهثُ فيها مثل الذئبِ ، وتكسرُ فانوسَ العميانِ ، وتشربُ أوراقَ الليمونِ ، وتبكي دهراً حين ترى الغزلانَ تُشاكسُ أشواقَ البستانِ وتمضي للظلِّ الغامِرْ .

ولمَنْ صَبَّ حليبَ التّمْرِ على الفخذينِ ، وأنْبَتَ مِسْكَ الزَّغَبِ على كهفِ النعناعِ الفائرْ .

ولمَنْ أعطى الثوبَ المبلولَ القُدرةَ لملامسةِ النَّهدِ، ولم يحرقْهُ الضوءُ الباهرْ .

ولَمنْ مَكّنَ هذي الفَرَسَ من العشقِ، وظلّ حصانُ الأسطورةِ يركضُ ، دون وَجِيبٍ ، والعسلُ يُرنِّقُ غيمَ الأشجارِ الماطِرْ.

وفردتُ الأوراقَ ، صَفَنْتُ ، تأمّلتُ..

وهَمَمْتُ لأكتبَ ، ثانيةً ، فتمثّل فوقَ الأوراقِ .. وقالَ الشيطانُ :

أنا الشاعرُ يا شاعرْ !

فَصِحتُ : وأين الجَنّةُ .. كي أُودِعَها حَرفِي المذبوحَ ،

وأين الفردوسُ الأعلى ..

لأُصَعِّدَ فيه كتابي الخاسر ؟