الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

زياد البريء؛ يعترف! "حين تكون العدالة باهظة الثمن وطويلة الأمد، فهي ظلم سافر".. كتب : طارق عسراوي

حكاية العدد

2017-04-04 12:27:22 AM
زياد البريء؛ يعترف!

بدا أنه ذهب إلى المحكمة للاعتراض على مخالفة حرّرها له شُرطيُّ المرور، والحقيقة أنّه توجّه ليتقدم بشكوى مباشرة للقاضي، ضدّ ذلك الشرطي الظالم.

في الثاني والعشرين من أيار، قبل أكثر من عام، كان قاصدًا عمله، الذي يقضي فيه نهاره واقفًا أمام سيخ الشّاورما، يحمل سكّينًا كهربائيًّا، فإذا بسيارة رياضيّة فاخره ذات لون أبيض بلوريّ لافت، تركن في موقف مخصص لذوي الإعاقة، في شارع وسط المدينة، وعندما صار في محاذاة السيارة، استوقفته شتائم رجل ترجّل من مركبته التي أوقفها إلى جانب السيارة البيضاء، ويحمل في يده مفكًّا .. وراح الرجل يدور حول المركبة، وهو يحزّ بالمفكّ على سطحها البلّوري، يتلف ويجرح طلاءها.. فتدخّل زياد ليبعد الرجل عن المركبة، حيث احتدم النقاش بينهما، وتحوّل إلى صراخٍ جمهرَ الناس حوله.

– لماذا فعلت ذلك؟! حرام عليك!

– حرام عليّ؟!! ألا تراها تقف في موقفنا المخصّص! هذه ليست المرة الأولى، ولقد أنذرته قبل ذلك!! سأعلّمه الالتزام بالقانون.. فلتترك يدي.

– ولكن هل خوّلك أحدٌ لتربية الناس من جديد، أو لتطبيق القانون بيدك!! لماذا لا تستدعي له الشّرطة؟.. أنظر هناك شرطي فلتشتكي إليه بدلًا من هذه الهمجيّة؟!

– ما دخْلكَ أنت!! أنا حرّ.. هل أنت ناطق باسم صاحب المركبة؟!

وعلا صياحهما أكثر فأكثر، مما جمّع الناسُ حولهما، كما تسببت وقفة سيارة الرجل الغاضب بشكل مزدوج في أزمة مروريّة، حضر على إثْرها شرطيٌ متأنّق بلباسه الرسمي، على دراجته الناريّة، ذات العجلات الثلاث.

استمع الشّرطي للحديث المتطاير من المتجمهرين، ورأى المشهد واضحًا، فوقف بينهما بحزم، وطلب بطاقة كلّ منهما!

حاول زياد أن يشرح للشّرطي الأمر، إلّا أنّه نهره بعبارة حاسمة؛ لقد رأيت كل شيء، بإمكانك الاعتراض أمام القاضي في المحكمة.

ثمّ أعاد لهما بطاقتيهما، وفي كلّ منها ورقة حمراء.

– مخالفة مرور بسبب ركن المركبة في مكان ممنوع!! هل هذه المخالفة لي؟!!

كيف يعقل ذلك؟!! هذه ليست مركبتي، غير أنّي تدخّلت من أجل…

ولم يكمل عبارته حيث شدّه أحد المتجمهرين من كتفه وقد أحاط يده على كتفه محاولًا تهدئته: لا تغضب، فهذه الأضرار سطحيّة يمكن معالجتها بقليل من مادة تلميع الطلاء وينتهي الأمر.

– لكنّها ليست مركبتي، ولا أعرف مالكها!!.

– معقول! يا لها من مخالفة عجيبة غريبة! ومع هذا، لا تضع نفسك في مشكله أكبر. لا تصعّب المسألة، لأنّك إن تطاولت وأكثرت الحديث.. سوف يسوقك بجريمة مقاومة رجال الأمن إلى السّجن.

– السّجن!! قال متعجّبًا.

– صدقّني، خُذْ المخالفة.. وأكمل طريقك.. وقلْ للقاضي ما حدث.

جال بعينيه في المكان، والغيظ يغلي في أوردته، فشاهد جمهرة الناس والمركبات والرجل يجادل الشرطي ويلحق به.. بينما الأخير يعيد دفتر المخالفات إلى جيب الدراجة ويدير ظهره!

هزّ زياد رأسه، وتحشرج قائلًا: سأشتكيه للقاضي.

في الثامنة صباحاً كان زياد واقفًا أمام مبنى المحكمة، شحنته الآية المكتوبة بخط ذهبي على واجهة المبنى “وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل” ؛ فاندفع إلى داخل المبنى بثقة وهو يؤكّد في نفسه سوف أشتكيه.

أين القاضي المسؤول عن المخالفات؟ سأل حاجبًا يجلس في ممر المحكمة.

– لم يباشر عمله بعد، اعطني مخالفتك وانتظر في القاعة حتى أنادي على اسمك.

في القاعة يجلس العشرات، سائقو مركبات عموميّة، سيدات متأنقات يقفن قرب الحائط، محامون يجيئون ويذهبون بردائهم الأسود وحقائبهم المليئة بالأوراق. تمتزج الأصوات وتتداخل..

لقد وقفت لأحمّل راكبًا قرب الإشارة الضوئيّة فشاهدني….

قهوة وسط ، أستاذ..

آه حادث سير ولكن الحمد لله بسيطة..

آه المهم السّلامة..

لم انتبه أنّ التّأمين منتهى منذ أسبوع..

….

بالكاد سمع اسمه بين عدّة أسماء عبر مكبّر الصوت، من تزاحم الأصوات في القاعة، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنّصف حين دخل إلى غرفة القاضي، ومباشرة ألقى جملته التي ظلّ جمرها ملتهبًا في أوردته منذ ظهيرة أمس.

– أنا اشتكي على شرطي المرور يا سيّدي، ولا أريد إسقاط هذه الشّكوى .. لقد حرّر لي مخالفة وأنا لا أملك أية مركبة.

كانت كلماته قد خرجت منه بشكل تلقائي سريع، لها ذلك الرّنين المشحوذ بالإصرار والغيظ، إلّا أنّها كانت تسقط من فمه مباشرة بين قدميه.. لم ترتجّ لها القاعة كما ظنّ، وهو يستعدّ لهذه الوقفة في غرفة الانتظار.. فارتدّ برأسه للخلف متفاجئًا!

قطّب حاجبيه وهو ينظر لاثنين من المحامين، يحاولان كتم ضحكاتهما.. أمّا ابتسامة القاضي فقد كانت أكثر وضوحًا وهو يسند ظهره إلى مقعده حين خاطبه:

– سيّد زياد، اليوم موعد محدّد لنظر المخالفات التي حرّرت في شهر آذار، مخالفتك تحمل تاريخ يوم أمس فقط.. فلو أنّك قرأتها جيّدًا لوجدت أن الميعاد المحدد لها هو في نهاية شهر تموز ونحن ما زلنا في أيار.

أراد زياد التّعقيب.. إلّا أن مواصلة القاضي لكلامه اسكتته.

– عليك الحضور في يوم الثّامن والعشرين من تموز المحدد لرؤية المخالفة وحينها سوف أستمع لكل ما لديك من شكوى.

– ولكن يا سيّدي، أنا لا يوجد لدي مركبة!

– حسنًا.. حسنًا.. لا بدّ من خلل في ذلك، لكن كما قلت لك لا جدوى من سماعك خارج موعدك المحدّد، كما ترى أمامي العديد من المخالفات المروريّة، ولن أتذكّر حكايتك حتّى موعد رؤية المخالفة، لذلك لا تضّيع وقت المحكمة. خذ بطاقتك ومخالفتك وتعال في الموعد المحدّد.. حينها سوف أسجّل لك في المحضر كل الذي تريده.

لم يعرف زياد ماذا عليه أن يفعل في تلك اللّحظة، غير أنّه كان ينظر في تلك الشّامة التي افترشت جبين القاضي على شكل حبّة تين.

كان ما يقوله القاضي منطقيًّا، فأخذ هويته والمخالفة، وأومأ برأسه موافقًا وخرج يردّد بصوت خفيض؛ فليكن.. سأشكوه يعني سأشكوه.

حين غادر غرفة القاضي أعاد تشغيل هاتفه النقّال، حيث أقفله كما طلب منه الحاجب، وسجّل فيه ملاحظة تنبّهه قبل يوم من موعد المخالفة.

لم يتبقَ أحد من زملائه في مطعم الشّوارما إلّا وعرف بالحادثة، بل صارت الحادثة محلّ سخرية الجميع .. الزبائن.. والجيران.. وكلّما مرّ شرطي من أمام المحل صاح به أحد زملائه: زياد وقّف منيح هنالك شرطي بالمكان.. وتعلو ضحكات الحاضرين.

أمّا هو فكان يجيب سخريتهم بكلمة واحده: سأشتكيه,

ومضت شاشة هاتفه النقّال قبل يوم من موعده، فاستأذن من صاحب العمل حيث سيتأخّر يوم غد عن عمله.

لم ينتظر طويلًا في غرفة الانتظار، كما حدث في المرّة السّابقة. وعند الباب نبهّه الحاجب لضرورة إقفال هاتفه والوقوف أمام الطاولة مع إبقاء يديه إلى الأسفل.

قال القاضي وهو يدقّق في بطاقته:

– يا زياد، أنت متّهم بإيقاف المركبة في المكان المخصّص لذوي الإعاقة، فهل أنت مذنب؟

يا سيّدي، أنا لا أملك أيّة مركبات!! وأنا أشتكي على الشّرطي الذي حرّر المخالفة، إنّه لم يتحقّق من ملكيتي للمركبة ولم يستمع لكل ما قلته…

– دَوّن في المحضر – خاطب كاتبًا يجلس على يمينه – غير مذنب حيث لا يوجد لديّ مركبة، وأنا أشتكى على الشّرطي محرّر المخالفة.

وبناء على ذلك تقرّر المحكمة دعوة الشاهد محرّر المخالفة من مرتب مرور المدينة ورفع الجلسة إلى يوم الثّامن من آب.

ولكن يا سيّدي، أنا لم أخالف القانون.

– لقد انتهت الجلسة يا زياد، لقد أثبتنا قولك بأنّك غير مذنب، وفي الجلسة القادمة سيكون الشّرطي حاضرًا وبإمكانك سؤاله ومواجهته بما تريد.

في موعد الجلسة المحدّد، وحده كان زياد واقفًا أمام القاضي، الذي يُملي على كاتب الضبط:

حضر المتهم زياد بعد التحقق من هويته، لم يحضر شاهد الاثبات ولم يتبلّغ، لذلك تقرر المحكمة التأكيد على دعوة الشاهد المذكور وترفع الجلسة إلى الثامن عشر من أيلول.

مرّت أشهر عديدة، لم يتغيّب فيها زياد عن جلسة واحدة من جلسات المحاكمة، ألِف خلالها الحاجب وبائع القهوة وبعض السّائقين الّذين غالبًا ما يحضرون، وفي الجلسة المحدّدة في شهر شباط والتي قرر زياد أن تكون الأخيرة وفقا لنصيحة سائق مركبة عموميّة، فدوّن الكاتب في محضر المحكمة:

” حضر المتهم زياد وقال: إنّني مذنب وأعود عن إنكاري السّابق وأرجو من المحكمة الرّحمة.”

** قرار

تقرّر المحكمة إدانة المتّهم بالتهمة المسندة إليه سندًا لاعترافه الواضح والصّريح، الذي قنعت به المحكمة معزّزًا بضبط المخالفة، وعملاً بأحكام المادة 99 من قانون المرور النافذ الحكم عليه بالغرامة المقدرة بمبلغ خمسون دينارًا، وحيث أن سجلّه خالٍ من أيّة مخالفات سابقة، ولم يتغيّب عن جلسات المحكمة، لذلك تقرّر المحكمة تخفيض قيمة الغرامة إلى النصف.

وأُفهم في تاريخ اليوم.

الأمر الوحيد الذي ما زال يشوّش ذهن زياد بعد تلك الحادثة هو ذلك الوجه المألوف الذي ترجل من مركبة بيضاء وقفت بعد أشهر في الجهة المقابلة لمكان عمله، حيث بدت على جبينه علامة لم يستطع تمييز شكلها من بعيد.

أين رأيتُ ذلك الوجه من قبل؟

أين.. أين يا زياد؟!