الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شعرية العوالمِ المقلوبة في ديوان"جرس لسماوات تحت الماء"

(قراءة في العنوان): محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

2017-04-04 12:43:32 AM
شعرية العوالمِ المقلوبة في ديوان

إنَّ أوّلَ ما يربك القارئ وهو يخوض مغامرة قراءة ديوان"جرس لسماوات تحت الماء" للشاعر الجزائري عثمان لوصيف هو عنوانه الغريب والمحيِّر في آن واحدٍ. ذلك لأنه يقدِّم للمتلقي لوحة مقلوبة تماما ينسحبُ فيها العلويُّ؛ أي السماوات، إلى الأسفل، ويرتفع فيها السفليُّ؛ أيِ الماء، إلى الأعلى. فيتحقق نوع من المفارقة الشعرية يجمع بين التناقض الحادِّ والتضادِّ معا في بوتقة واحدة يظهرُ عليها تماهي هذه العناصر المتنافرة مع بعضها بعض. ثم إنّ القارئ بعد هذا سيشعر بأنَّ العنوان غامض حتى ليصعب فهمه واكتشافُ المقصودِ من ورائه. غيرَ أنَّ التدبُّرَ في تركيب جملة العنوان يجعل المتلقيَ يصلُ إلى القناعة بأنَّه يقدّم صورةً مغلوطةً عن المعنى المقصود منه. ويرجعُ هذا إلى كونِه لا يكتفي بتقديم دلالة معيَّنة بقدر ما يحملُ رؤيا شعرية تتجاوزُ الظاهر المغلوط إلى باطن عامرٍ بالمعاني والدلالات. وإذْ نتأمُّل في تركيب عبارة العنوان يظهر لنا أنَّ ما ساهمَ في إحداثِ تلكَ الصورة المغلوطة بشكل خاص هو ظرف المكانِ:"تحت" الذي قلب منحى الدلالة صوب اختلافٍ ما كان ليكون لها لو استعمل الظرف:"فوق" على سبيل المثال والحصر. وإذا حاولنا قراءة هذا العنوان باعتباره مجموعة من الرموز الدالّة في اجتماعها على عدد من المعاني المحتملة والمخالفة لظاهرها، فإننا نجدها تدلّ متفرقة كذلك على معانٍ مختلفة لا يوحي بها ظاهرها على الإطلاق.

 

"جرس لسماواتٍ تحت الماء"، هذا العنوان جمع في بنيته أمورا ذات صلة ببعضها ظاهريا أولا، فالجرس هو الصوت المتكرر الذي يحمله الهواء، هذا الأخير الذي استعير له لفظ السماوات، ولا ريب بأنَّ ارتباط الجرس بالسماوات هو ارتباطه بالعلوِّ ظاهريا أيضا، بينما تأتي المفارقة الأسلوبية بإدخال الظرف "تحت" الذي يوهم القارئ بأنَّ ما كان يبدو له علوًّا أصبح في الأسفل، وما كان يعتبره هواءً يمتدُّ فيه الجرس أصبح ماءً فيه يسبح. كلُّ هذا التفسير هو باعتبار ما تدلُّ عليه القراءة الأولى لظاهر الكلام. ومع أنَّ هذا ليس ما تحملُه الرؤيا العميقة للعنوان، إلا أنه سبيل ضروريٌّ للوصولِ إلى المعنى الكامن خلف البنية السطحية له. فما يتميَّزُ به النص الشعريُّ، وعنوانه خاصة، هو تلك الخصائص الشعرية التي تجعل منه"كونا مفتوحا (Open – end) بإمكان المؤوّل أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية"( إيكو، أمبرتو. التأويل بين السيميائية والتفكيكية. ترجمة وتقديم:سعيد بنكراد. المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية؛2004. ص:42.).وتجعلُ من عنوانه بوابة واسعةً للتعرُّف على الرؤيا الشعرية التي يحملُها الديوان بكامله. وحتى نعود إلى التنقيب في بنية هذا العنوان ذاتها، فإنَّنا نقرُّ-انطلاقا من ربط العنوان بالمتن الشعري-بأنَّهُ-أيْ العنوان-في هذه الحالة ليس مقصودا في معناه الحرفي الظاهريِّ، وإنما هو صورة مكثفة يوحي ظاهرها بالتناقض لعالمٍ داخليٍّ أكثر هدوءًا واستقرارا بفضل تصالحه مع ذاته رغم عسر الهواجس. فبعد التدبُّر في لفظ "الماء" الموظف في آخر العنوان يتوضَّح لنا بأنه يرمز"إلى الحياة السابقة على الشكل، الحياة التي لم يتحدد شكلها بعد، ويرمز إلى ما يجري ويتدفق دائما: إلى الصيرورة، إلى المتحوِّل، المتغيِّر."( أدونيس. النص القرآني وآفاق الكتابة. دار الآداب، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى؛ 1993. ص:136.) فهو إذن رمز لكل ما يسبق المادة، التي يمكنُ تفسيرها في هذا الموضع بالجسد، ورمز لكل ما يتدفَّق ويتحوَّل ولا يقرُّ على شكلٍ ثابت، أيْ كل ما يتوق إلى التحرر والانعتاق.

 

ونصلُ بعد هذه القراءة إلى كونِ المقصود بلفظ "الماءِ" في العنوانِ هو عالم الروح، ويصبِحُ هذا العنوانُ المتناقض في ظاهره دالاًّ-باطنيا وشعريا-على عوالم الروح الكثيرة المتداخلة التي قد يضيق بها الجسد في حالة المتصوف، وتتوقُ إلى مفارقته طلبا للعالم العلويِّ الذي تدلُّ عليه في بنية العنوان كلمة "الجرس" و"السماواتُ"، ويُصبِحُ كلُّ هذا العالم المقلوب على رأسه فيما يبدو أوَّل وهلةٍ داخل الروح لا خارجها.