الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وما زلنا نبكي بين يدي زرقاء اليمامة.... د. رزان إبراهيم

2017-05-24 06:38:05 PM
وما زلنا نبكي بين يدي زرقاء اليمامة....
د. رزان إبراهيم
د. رزان إبراهيم

ما إن وقعت عيناي على رواية غويتسيلو " الأربعينية" حتى وجدتني مندفعة نحو قراءتها، يحركني في هذا فضول لمعرفة مغزى هذا العنوان الذي يحمل مفهوما متداولا مرتبطا بالموت في مجتمعاتنا العربية، وهو ما لا يغيب عن رواية كتبها من بعد تداعيات حرب الخليج الثانية عام 1991، التي استمرت أربعين يوما على حد تصوره.

 

في كل الأحوال ما إن استغرقت في الرواية حتى اكتشفت أن الكاتب ينقلنا معه إلى رحلة الأربعين يوما، بعد أن يتخيل نفسه قد مات، وانتقل إلى مرحلة البرزخ، يلتقي من بعدها ( منكر ونكير)، ومن ثم يذهب إلى الجنة والنار. وهي فكرة- كما لا يخفى على أحد- نجدها في رحلة المعراج، وفي الكوميديا الإلهية لدانتي، أو حتى في فتوحات ابن عربي، ولكل بطبيعة الحال غايته وطريقته وأسلوبه الذي يملأ به هذا الإطار الفانتازي المبهر.

 

هنا بالذات شدني في الرواية ما كنت قد قرأته في دراسة نقدية لبيير بيار يتساءل فيها إن كانت الرواية تستمد إلهامها من الماضي وحسب، أم من المستقبل أيضاً؟ وهو ما دفعه إلى القول إن النتائج في الرواية لربما تسبق حتى الأسباب، خلافاً لما هو شائع في الحياة من أسبقية الأسباب على النتائج. مما يعني أن للكاتب ملكة تريه مستقبلا بإمكانه التعبير عنه في الأدب الذي  يكتبه، وهو ما يحاول إثباته عبر دراسة بيوغرافيا الكاتب، ومنها يصل- على سبيل المثال- إلى أن سباحة أعمال فرجينيا وولف في متخيل الماء والموت أمر لا ينفصل عن طريقة انتحارها في المستقبل.

 

عودا إلى غويتسيلو، وفي رواية تتقاطع معها الأزمنة وتتفتت، في فترة الأربعين يوما التي تعقب وفاة الكاتب المتخيلة، تبرز الرؤية المستقبيلة من أوسع باب من خلال شاشات عملاقة يرقبها الراوي البطل وقد رصدت ما جرى في العالم وما سيجري، بما صرت بعد تأمل أراه تمهيدا لما نعيشه اليوم.

إذ لشد ما استوقفتني فيها مشاهد مرعبة يتحدث فيها غويتسيلو وهو في العالم الآخر عن كم مخيف من الدماء والجراح، وعن مبان تزعزع توازنها، ومآذن مبتورة، وبقايا حافلات متفحمة، ودبابات مهجورة، وبقايا النهب وعربدة الدماء، وضحايا الإعدام الجماعي، تلفهم موجات هواء يستحيل تنفسه، مع عيون جاحظة وجبهات اخترقتها الرصاصات، وأياد متوترة تشير بإصبع السبابة لاتهام المسؤول غير المرئي عن هذه المذابح، يحكي هذه المشاهد بتفاصيل حرفية كمن انكشفت له الحجب، وأصبح قادرا على أن ينقل حاضرنا اليوم في سوريا والعراق واليمن، مع سؤال مرير يقول فيه: " أترى تمت التضحية بهم كخنازير تجارب على مذبح التكنولوجيا الحربية الحديثة أم هو الثأر الأعمى للخاسر"؟ يتبعه بسؤال آخر عن هؤلاء المنبوذين المجهولين الذين تجاهلهم دانتي، أهم أكراد، أم فلسطينيون، مرتدون.. أم مجرد أبناء للأرض الخصبة لما بين النهرين( يقصد العراق طبعا) يستمسكون بغريزتهم في البقاء أحياء، كونها الحقيقة الوحيدة الراسخة فيها؟ وهي المشاهد والأسئلة التي دعتني إلى التفكير بأكثر من رواية من قبل ومن بعد أطلقت الصرخة عالياً بوجوب الاستمرار في تحذير الرأي العام والسلطات من مغبة تصاعد الأحقاد والعصبيات، منبهة من خطر انتقل وبكل أسف من أن يكون مجرد نبوءة، ليصبح حقيقة صرنا نلمسها ونرقبها بكثير من التعاسة ليل نهار.

 

والحال أن هؤلاء الأدباء باتوا كما زرقاء اليمامة حين حدثت قومها عن (مسيرة الأشجار/ فاستضحكوا من وهمها الثرثار) وصرنا كما قال أمل دنقل تماما: ( جرحى القلب/ جرحى الروح والفم/ لم يبق إلا الموت/ والحطام/ والدمار/ وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار/ ونسوة يسقن في سلاسل الأسر/ وفي ثياب العار).

 

أذكر هذا وفي ذهني أن مستقبلا تتحدث عنه الرواية عموما لا يأتي منقطعا عن واقع بائس يبشر بمصائر غاية في البؤس، حتى وإن جاء الأمر على نحو يتعارض بعض الشيء مع ما كنت قد نقلته عن بيير بيار في دراسة له بعنوان " الرواية البوليسية والتحليل النفسي: من قتل روجر أكرويد"؟ حين استثمر بيوغرافيا الكاتب وقارنها بأدبه، ليصل من بعدها إلى ملكة استشراف تسبق الأسباب.

 

أنهي بالتذكير أن صاحب الأربعينية يعد واحدا من كبار المثقفين الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية، بل إن أشهر أعماله «إسبانيا في مواجهة التاريخ» يدافع فيه بوضوح عن الثقافة العربية ودورها في الحياة والثقافة والتاريخ الإسباني، خلافا لموجة من مثقفينا هذه الأيام ممن يدين الوجود العربي الإسلامي في الأندلس.