الأحد  05 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل يعزز الانكماش المالي فرص النمو الاقتصادي؟

2017-06-02 01:30:23 PM
هل يعزز الانكماش المالي فرص النمو الاقتصادي؟

كتب:* أندرس فيلاسكو

 

سانتياجو ــ تشير تجربة أوروبا الأخيرة إلى أن الانكماش المالي من غير الوارد أن يكون توسعيا. فعندما جُرِّب في اليونان، انخفض الإنفاق الحكومي، وارتفعت الضرائب، وانهار الناتج. وحدث الشيء نفسه، لكن بصورة أقل دراماتيكية، في أماكن أخرى من القارة. لقد ثبت فشل حُجة أنصار التقشف، كما يحب بول كروجمان رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل أن يسميهم.

 

لكن دروس الغرب لا تنطبق على بقية العالم بالضرورة.

في اثنتين من دول أميركا اللاتينية، بات من الواجب إعادة النظر في فكرة مفادها أن ضبط الأوضاع المالية (خفض العجز والدين الحكوميين) كفيل بتحفيز النمو. ففي البرازيل دأبت الحكومة على خفض العجز المالي الهائل في حين كان الاقتصاد يتعافى من أعمق حالة ركود يمر بها منذ عقود من الزمن (وإن كانت فضيحة الفساد التي تورط فيها الآن الرئيس ميشيل تيمر ربما تعرقل هذا الجهد). وفي الأرجنتين، تستطيع إدارة الرئيس موريسيو ماكري أن تخفض العجز بقوة أكبر مما فعلت حتى الآن، من دون المخاطرة بالعودة إلى الركود.

 

وقد يكون الانكماش المالي توسعيا إذا توقعت الأسواق إن يؤدي إحكام القواعد التنظيمية اليوم إلى منع تخفيضات أكبر وأكثر تعطيلا للميزانية (أو الأسوأ من ذلك، اندلاع أزمة مالية تامة النضج) في المستقبل. بعبارة أخرى، لابد أن يكون الدين العام بالغ الضخامة، أو أن ينمو بسرعة كبيرة، حتى تفقد الحكومة قريبا قدرتها على الاقتراض. وكان هذا صادقا في حالة اليونان، ولكن ليس في حالة أغلب الدول الأوروبية الأخرى. فحتى في أوج أزمة اليورو، ظل بوسعها أن تقترض بوفرة في مقابل أسعار الفائدة التي بقيت منخفضة وفقا للمعايير التاريخية.

 

غير أن الأمر ينطوي على شرط آخر بالغ الأهمية أيضا لإحكام القواعد المالية وهو أن لا يتسبب ذلك في إلحاق الضرر الشديد بالناتج: إذ ينبغي للبنك المركزي أن يتمتع بالحيز الكافي لخفض أسعار الفائدة والسماح للعملة بالتكيف. ومن الواضح أن هذه لم تكن الحال مع البنك المركزي الأوروبي، الذي ظل يصطدم بحد الصِفر الأدنى المشؤوم لأسعار الفائدة الاسمية. وبحكم التعريف، لم تكن لدى دول منطقة اليورو، مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال، عملة خاصة يمكنها خفض قيمتها بهدف حفز الصادرات. وليس من المستغرب إذن أن تشعل تدابير التقشف شرارة الركود العميق وارتفاع معدلات البطالة.

 

لكن الأمور تبدو مختلفة عبر منطقة جنوب الأطلسي. إذ يقترب الدين العام الإجمالي في البرازيل من 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وتُعَد أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) هناك بين الأعلى على مستوى العالم. ونظرا للاتجاهات المالية التي سادت حتى وقت قريب، كان اندلاع أزمة ديون في نهاية المطاف احتمالا واضحا.

 

ويظل الخطر قائما، وخاصة إذا تسببت مشاكل الرئيس ميشيل تيمر في منع إصلاح معاشات التقاعد الحتمي من المرور عبر الكونجرس (تنفق البرازيل على معاشات التقاعد كحصة من الناتج المحلي الإجمالي قدر ما تنفقه إيطاليا، حتى برغم أن سكانها أصغر سنا بدرجة كبيرة). ولكن على الرغم من الاضطرابات السياسية، كانت الأسواق هادئة بالقدر الكافي للسماح للبنك المركزي البرازيلي بخفض أسعار الفائدة بشكل متكرر.

 

في دولة مثقلة بالديون مثل البرازيل، ربما يخلف ضبط الأوضاع المالية العامة أثرا غير تقليدي على سعر الصرف: فبقدر ما يخفف تقليص العجز بنسبة صغيرة من المخاوف من أن تحاول الحكومة التخلص من عبء الديون بالاستعانة بالتضخم، ترتفع قيمة العملة. واقتصاد البرازيل كبير ومغلق نسبيا، وبالتالي فإن سعر الصرف الحقيقي التنافسي يُعَد أقل أهمية للنمو هناك من حاله في اقتصاد صغير مفتوح.

 

ولأن الشركات البرازيلية اقترضت مبالغ ضخمة بالدولار (نتيجة لأسعار الفائدة المحلية التي ارتفعت إلى عنان السماء)، فربما تكون العملة المتزايدة القيمة توسعية في الأمد القريب: حيث يصبح بوسع الشركات أن تنظف دفاتر ميزانياتها دون أن تضطر إلى الاستغناء عن العمال أو تقليص الاستثمار.

 

وكانت العملة المتزايدة القيمة هي كل ما حققته جهود الإصلاح المالي إلى أن ظهر تسجيل للرئيس تيمر وهو يؤيد دفع رشوة لسياسي سجين. وبعد ذلك غيرت كل من ستاندرد آند بورز ومودي توقعاتهما من مستقر إلى سلبي. ولم يكن من المستغرب أن تتراجع قيمة العملة عن الذروة التي بلغتها (3.1 ريال في مقابل الدولار) في منتصف إبريل/نيسان.

 

وفي الأرجنتين، كانت الإنجازات الاقتصادية التي حققها فريق ماكري، الذي ورث الفوضى الهائلة التي أحدثتها أسرة كيرشنر البيرونية التي سبقت إدارته، بطولية. ومع ذلك، يحتاج مزيج السياسات الاقتصادية الكلية الحالية إلى المزيد من التحسين.

 

ونظرا للمخاوف بشأن إعادة دفع عجلة النمو والتي بدت عظيمة الأهمية، ولأن إجمالي الدين العام في الأرجنتين، عند مستوى 50% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي (27% بالقيمة الصافية)، ليس ضخما بشكل خاص، لجأ ماكري إلى خفض الضرائب والسماح للعجز الأولي بالارتفاع من 4% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الأخير من ولاية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر كرئيسة للبلاد إلى 4.3% في عام 2016، والهدف الرسمي لعام 2017 هو 4.2%.

 

كانت الحكومة تقترض في الخارج لتغطية العجز (بلغ العجز المالي الإجمالي نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016). ولأن ماكري توصل إلى تسوية مع دائني الأرجنتين بعد العجز السيادي عن سداد الديون في عام 2001، فقد تمكن القطاع الخاص أيضا من استئناف الاقتراض الأجنبي.

 

وقد عملت تدفقات رأس المال الناتجة عن ذلك على تعزيز قيمة العملة، إلى الحد الذي أصبح معه سعر الصرف الحقيقي اليوم عند المستوى الذي كان عليه تقريبا قبل أن يعوم ماكري العملة في بداية عمل إدارته. وانخفض التضخم، ولكنه ظل مرتفعا، على الرغم من قوة البيزو. ولهذا، قرر البنك المركزي رفع أسعار الفائدة القصيرة الأجل في إبريل/نيسان.

 

ومن شأن السياسة المالية الأكثر إحكاما أن تعمل على تعزيز مصداقية برنامج مكافحة التضخم. وانخفاض التضخم كفيل بإفساح المجال لسياسة نقدية أكثر توسعية، مما يسمح بانخفاض القيمة الحقيقية للعمة وتحفيز الصادرات والنمو.

 

لن يتأتى النمو المستدام في الأرجنتين إلا من خلال توسع القطاع القابل للتداول. ومن شأن زيادة اليقين بأن سعر الصرف الحقيقي سيكون تنافسيا أن تساعد في فتح باب الاستثمار في المشاريع الزراعية (تتمتع الأرجنتين بظروف طبيعية بين الأكثر تنافسية في العالَم)، والطاقة، والصناعات المنافسة للواردات.

 

لن يكون من السهل تحقيق هذا اليقين، لأن قدرا كبيرا من العجز الأولي يعكس بقاء دعم الطاقة للأسر والشركات؛ وزيادة ما يسمى الأسعار المدارة (للكهرباء والغاز الطبيعي بين سلع أخرى) من شأنها أن تُفضي إلى قفزة لمرة واحدة في مؤشرات الأسعار ذات الصلة، وارتفاع مؤقت في التضخم. المطلوب إذن هو إقناع المستهلكين بأن ارتفاع التضخم سيكون مؤقتا، ولكي يتسنى هذا فإن الأمر يتطلب وجود مرساة مالية جديرة بالثقة وقوية.

 

ومن ثم فإن ضبط الأوضاع المالية في البرازيل من شأنه أن يعزز قيمة العملة، في حين قد يخلق في الأرجنتين الحيز لسعر صرف حقيقي أكثر تنافسية. وكل من التأثيرين طيب ــ

 

وهذا في الأمد القريب فقط على الرغم من الاعتراف الرسمي بالخطأ من قِبَل صندوق النقد الدولي عندما قلل من جسامة التأثيرات السلبية الناجمة عن التقشف المالي في الأمد القريب على النمو الأوروبي، فإن دراسات الصندوق للأمد الأبعد تثبت بوضوح أن "خفض الدين الحكومي من المرجح أن يؤدي إلى ارتفاع الناتج، في حين يسمح انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية وارتفاع عبء أقساط الفائدة بخفض الضرائب المشوهة".

 

ولا يحتاج المرء إلى التمسك بعتبة 90% من الناتج المحلي الإجمالي المثيرة للجدال التي حددتها كارمن راينهارت وكينيث روجوف لكي يعتقد أن الوضع المالي الأقوى من الممكن أن يساعد النمو في الأمد البعيد ــ وخاصة في اقتصادات تتسم بانخفاض مستويات الادخار وارتفاع أسعار الفائدة بشكل دائم مثل البرازيل.

 

الواقع أن وضع الأرجنتين والبرازيل ليس كوضع أسبانيا والبرتغال. وإذا كان ضبط الأوضاع المالية كفيلا بخلق فرص النمو، فينبغي لهما أن يغتنما هذه الفرصة.

 

* وأستاذ التنمية الدولية في جامعة كولومبيا للشؤون الدولية والعامة/ مؤلف للعديد من في دراسات حول الاقتصاد والتنمية الدولية.

 

بروجيكت سنديكيت