الأحد  28 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فواز عيد في ذاكرتنا :أما آن لنا أن نردّ له ما يستحق من احترام؟

بقلم الكاتب الناقد الراحل : يوسف سامي اليوسف

2017-07-07 08:11:41 PM
فواز عيد في ذاكرتنا :أما آن لنا أن نردّ له ما يستحق من احترام؟

في صبيحة الثلاثين من كانون الثاني، سنة 1999، توفي صديقي الشاعر الفلسطيني فواز عيد، هنا في دمشق، أو حصراً في ضاحية المعضمية المجاورة لدمشق من جهتها الغربية. وقد ولد الرجل في سمخ جنوب طبريا عام 1938، وهذا يعني أنه عاش ستين سنة، أو زهاء ذلك.
 

تعرفت على فواز يوم انتسبت إلى جامعة دمشق سنة 1960، وسرعان ما صرنا أصدقاء، وظللنا كذلك حتى وفاته الفجائية أثر نوبة من تكل النوبات الصاعقة التي تداهم المرء بغتة فلال تغادره إلا وقد رحل عن هذه الدنيا إلى الابد. ولكن صلتي بفواز قد أصابها ارتخاء خلال المدة التي قضاءها في السعودية مدرساً للغة العربية، فقد صرنا لا نلتقي إلا لماماً، وذلك حين يجيء إلى سورية في العطلة الصيفية.
 

وأغلب ظني أن تلك المدة تمتد من سنة 1967 حتى سنة 1981، وهذه فترة تعادل بضعة عشر عاماً قضاها بعيداً عن الجو الشعري الدمشقي الذي ازدهر فيه الشاعر.
 

ولقد جاء نبوغ فواز مبكراً، فمنذ أن كنا طلاباً في الجامعة راح ينشر شعره في مجلة "الآداب" البيروتية، المخصصة يومئذ لنخبة الكتاب في العالم العربية. وفي سنة 1963، أي يوم كان في الخامسة والعشرين من سنوات عمره، نشرت له دار الآداب مجموعته الشعرية الأولى تحت هذا العنوان: "في شمسي دوار".

 

ولقد جاءت بمثابة حدث ثقافي بكر في سورية خلال تلك الآونة، وذلك لأنها من أوائل المجموعات الشعرية الحديثة في هذا البلد. ثم تتالت مجموعاته حتى بلغت الخمس يوم وفاته.
 

تجنح المجموعة الأولى نحو توظيف الأساطير والموروث الشعبي الشفهي في بنية القصيدة. وهذا تقليد طارئ على الشعر كان الشاعر الانجليزي ت.س. اليوت أول من أرساه في العصر الحديث. ثم تلقفه السياب وأفرط في تبنيه له، أو في الاتكاء عليه. تم تبناه شعراء آخرون في العالم العربي. وكان فواز واحداً منهم. ولكن هذا الشاعر سرعان ما تخلى عن هذا التقليد ابتداء من مجموعته الثانية بالضبط.
 

فقد جاء في المجموعة الأولى اسم شهرزاد عدة مرات، وذلك بوصفها رمزاً يوحي بالحلم، أو بالحميم المنشود. كما جاء اسم عوليس من حيث هو رمز للحركة والسعي الدؤوب وراء المطلوب.
 

وثمة الكثير من الإشارات إلى التراث الشعبي، ولا سيما إلى الحوت الذي يبتلع القمر ليلة الخسوف.
وربما كان ذلك رمزاً للشر الذي يحاول أن يلتهم الخير، لكن دون أن ينجح في ذلك إلا مؤقتاً وحسب.

 

وثمة إشارة أخرى إلى عنصر من التراث الشعبي خلاصته أن النساء يرششن الأرض سبع مرات بالملح والماء حين يتعثر طفل ويسقط. ولعل في هذا اتقاء للشر بالتطهير والتنظيف ولقضاء على الأرواح الخبيثة المبثوثة في المكان.
 

ولكن ما هو جدير بالملاحظة في هذه المجموعة الأولى، بل في شعر فواز بأسره، أن الوطن السليب، أعنى فلسطين، لا يذكر صراحة أو على نحو جهري مباشرة، وإنما تؤشر عليه القصيدة تأشيراً وحسب، ولكنه تأشير لا يخفى على أحد، ولا سيما على كل من يستطيع أن يحضر ولا بأس في مثال على ذلك. فقد جاء هذا المقطع الصغير في نهاية قصيدة من المجموعة الأولى عنوانها "الفرسان":
ترنموا، غنوا،
فدرب الليل آخره لنا،
وغداً نعود إلى البيوت،
نعود،
تنفرج البيوت عن المناديل المنمنمة الرقيقة،
عن يد بيضاء شاحبة تجس عروقنا.
 

وها يعني أن الشاعر قد تعامل مع الكارثة الفلسطينية بالتلميح لا بالتصريح المباشر الذي لا صلة له بالشعر الحديث. ومما هو جدير بالتنويه أن الشاعر قد نشر كتاباً. عنوانه "نهارات الدفلى"، في ذلك الكتاب، الذي هو كتابه النثري الوحيد، ذكرياته عن عام النكبة، ولكنه عرضها بأسلوب شاعري جميل.

 

كما أنه قد بين مدى اللوعة التي رسختها تلك الكارثة في بنيته النفسية. وما ينبغي أن يذكر الآن هو أن ذلك الكتاب قد صار مسلسلاً تلفزيونياً قبل وفاة الشاعر.
 

وللحقأن المجموعة الثانية، وعنوانها "أعناق الجياد النافرة" (1969)، وكذلك المجموعة الثالثة، وعنوانها "من فوق انحل من أنين" (1948)، هما ذروة شعر فواز فالقصيدة في هاتين المجموعتين تدخر شيئاً من دفء الروح، وكذلك من القدرة على التصوير المفعم بالحيوية والمحتوى الوجداني الأصيل.
 

وفضلاً عن هذا، فإن اللغة ههنا يانعة ومزودة بنضارة مشرقة وينسبا الأسلوب انسياباً تلقائياً عذباً، أو هو يتدفق ولكن بسلاسة ونعومة جذابة ولعل في السداد أن يقال بأن فواز يكون في أحسن أحواله حين يعرض وجدانه المرهف الحنون.

 

فميزة فواز الأولى أنه دافئ، صادق وأنيس، سواء في شعره أم في شخصيته الحية الطيبة.
اما مجموعته الرابعة، وعنوانها "بباب البساتين والنوم" (1988)، فهي استمراره لشرعه السالف الذي عايشته أنا منذ بدايته زهاء سنة 1960، ما عدا تلك الفترة التي قضاها في السعودية.
 

ولعل أهم ما في امرها أنها مزودة بالقدرة على افتراع الصور البكر التي يخطفها الشاعر خطفاً من نسج اللغة، في بعض الاحيان. أضف إلى حنان الوجدان ودفء الروح.
 

ففي القصيدة التي تحمل المجموعة كلها عنوانها، أعني "بباب البساتين والنوم"، وهي قصيدة جيدة جداً، ويلتقي العائدون من الحرب بالنساء الباكيات، تم تشتبك الأذرع القادمة
بأي ذراعين تنتظران
يعانق هذا الغريب غريبه
فتسأله: أين كنت؟
لماذا قطعت الرسائل عني؟
فما يصلان إلى بيتها
في أقاصي المدينة
حتى يصير حبيباً لها وتصير حبيبه.
وهذا هو الحنان، او دفء الروح، الذي يتميز به فواز عادة.
ويصدق المذهب نفسه على المجموعة الخامسة، وعنوانها "في ارتباك الأقحوان" (1999)، ونقد نشرت بعد وفاة الشاعر بقليل. فهي تتمتع بقدرة فذة على التعبير والصوغ في كثير من الأحيان، ولا سيما في بعض قصائدها المتوهجة، مثل قصيدة "حلم على حافة الصيف"، أو تلك التي خصصها لزوجته سلوى، والتي تحمل هذا العنوان نفسه، أعني "سلوى"، فهذه قصيدة فحواها العلاقة الوجدانية الحميمة بين الشاعر وزوجته التي قدمها كأنها تتألف من بعدين متضادين: مثل أعلى وكائن واقعي مهموم بهم الأسرة والأطفال.
 

هذه لمحة قدمتها عن شاعر فلسطيني كان صديقاً لي طوال مدة ليست بالقصيرة.
وإنه لشاعر رقيق الشعور وشديد العذوبة ومفعم بالدماثة واللطف.
 

وللأسف، نسيناه جميعاً منذ وفاته حتى اليوم، فلا تذكره الصحف، بل قلما يذكره أحد في الوسط الثقافي بأسره.
 

ولقد صرح لي عدة مرات بأنه يدرك عدم اهتمام عصرنا الراهن بالشعر والشعراء.
 

ولعل هذا الاعتقاد أن يكون واحداً من المثبطات التي جعلت تراث فواز الشعري لا يبلغ أربع مئة صفحة، كتبها خلال أربعين سنة على وجه التقريب. وفي نهاية قصيدة من المجموعة الرابعة عنوانها "الأشياء حتى النصف" ما يوحي بأن فواز كان يدرك ما مؤداه أن المجتمع الحديث، مجتمع التضخم المالي، يحيط القصيدة بالرماد من جميع جهاتها. يقول:
وأنا وأنت العاشقان بلا بلاد.
داري الغير حيثما ألقاك.
دارك في المسافة بين وجهينا.
كمملكة القصيدة،
في فضاء من رماد.
 

ولقد توفي في دمشق وهو مغمس بالعوز أو بالفقر. مات فقيراً ونسى بسرعة، وأهمل شعره إلى حد بعيد، بل أهملت ذكراه، فصار مآله إلى الإهمال والإغفال.
 

لقد كفناه بالنسيان الذي هو الموت الحقيقي لكل مبدع، مع إنه شاعر نادر في هذا الزمن التليف الشائه، او المتمرغ في وحول الفسق والفساد.
 

إنه زمن المال الذي يفرز الانحطاط والتفسخ الروحي أو الأخلاقي على نحو حتمي، أو لا مفر منه بتاتاً.
إنه الزمن الذي لا قيمة فيه لشيء سوى المال وحده وفضلاً عن ذلك، فإن زمن التضخم هذا من شأنه أن يحرم الحياة من العذوبة والنكهة الطيبة، وأن يجعل منها كابوساً لا يطاق.
 

وما من أحد يعرف ما إذا كان التجدد، أو التغير نحو الأفضل، أمراً ممكناً وغير ممكن.
ترى، أما آن الأوان لنرد إلى فواز عيد ما يستحق من الاحترام، أو بعض ذلك على الأقل؟.

------

لمن يصير الزيت في الزيتون

فواز عيد

 

ولمن يصير الزيت في الزيتون؟

زعموا بأنك راحل..

في نبعة الفجر.. الذي

قد جاءنا يوما .. معك

إن كنت محزونا ..قليلا

فانتظر.. لنشيعك

وإذا رحلت..

وما التفت..

فهب لنظرتنا الكسيرة..منة

كي تتبعك

إن الذي قد كان أوجعنا ..

زمانا هاهنا

قد أوجعك

إذ كنت يوما صاحبي..

وأخي..صديقي.

ما الذي ..قد غيرك

إنا نحبك..

فاتق الله الغفور

لهفوة صغرى

وسامحنا على أحلامنا الأولى..معك.

قد كنت فينا زهرة الليمون..

عطرا ذائعا ..ملء الكروم

وكنت صيفا ذاهبا..

بالشمس.. للبستان

والثمر القديم

وذاهبا بالشمس

حتى شرفة الوادي الكبير

وذاهبا بالطفل ..حتى الثدي

والنوم المرصع بالنجوم

وذاهبا بأبي..

إلى أمي التي عشيت

لتنثر فضة العينين

ملء رسالة

من آخر الشفق الضرير

وملء ذكراها القديمة

حين فاجأها المخاض

بصرخة أولى

فضج الياسمين على السياج.

قد كنت فينا سيد الأعراس

عصرا ذاهبا بالبنت..

حتى ليلة الحناء

همهمة الدرابك

وانكسار الفيء.. عند العصر..

في قلبي

بتلويح المعاصم بالأساور..والذهب.

للناس أغنية..

وللأعراس أغنية..

ولي هذي الإشارة كلها..

وعد.. بحب.

قد كنت فينا

ذاهبا بالناس ..نحو الناس..

بينهم القرنفلة الكبيرة

والبيوت إلى البيوت

لتتكي

بكرومها..

ومعاصر الزيتون فيها..

أو بإيماء النبيذ هنا..

تبشر بالغواية فيه..دالية

تناولني عناقيد العنب.

قد كنت تأخذني إلى عمل المساء

لأخوض في مرآته..

حتى تمر بنا التي كانت تمر..

ووجهها الخزف الطري

إذا تأوه

إذ يلفلفه حرير النافذة..

فأمر تحت سمائها

ونداء نجمتها المعلقة الصغيرة

خلف شباك يرفرف في العلاء

أو ظل نرجسة..

تغامر أن يكون لها المساء..

لها المساء..

أرأيت ما قد كنت تأخذني إليه..

فما الذي قد غيرك..

إن كنت محزونا قليلا..

فانتظر لأشيعك.

إن تبتعد عني..

مسافة ..صرخة..

قل لي إذن

ما الوقت بعدك

ما الكلام

ما الصيف

ما المر الذي يسقي ظلالك جانبي

ما المر..

يسقي روح هذا الزهر في الدفلى

وما معنى التحية.. والسلام

إن كنت تسعد بالمسافة..

فابتعد.

أرجوك..

خذ .. ما شئت منا..وابتعد.

وإذا رحلت ..

بغير ما تلويحة

فلمن إذن خلفتنا..

للعابرين بنا..

لنسألهم.. ولا يلتفتون

قل لي.. لمن؟

إن لم تكن لك..

أو لنا..

فلمن تموج إليه

آلاف العصافير الصغيرة..

في المساء..

ولمن إذن..

تتبرج الدفلى

تميس من الهوى..

عطشى لهبة نسمة

حتى تميل بكل قامتها..

على نهر

فترتبك المرايا..

فوق صفحته

وتشتعل الفتن.

وإذا رحلت..

أو ارتحلنا كلنا..

فلمن نكون

ولمن يكون الصيف..

والقمر الطري على النوافذ..

والمهود ..يهزها..

كي ينعس الحراس..

في ليل السجون.

وإذا رحلت..

أو ارتحلنا كلنا..

فلمن يصير الزيت..في الزيتون

ولمن نخبئ

دمعة اللقيا المجرحة البهيجة

في العيون.

ولمن إذن

يتكور الفخار.. والليمون

ولمن تهب الريح..

أو.. تغفو على قلق الغصون

ولمن تجيء له الرسائل..

من عواصم آخر الدنيا..لمن

أرجوك.. أخبرني..

بحرمة والديك

لمن ..لمن.

ولمن ستترك شمسنا

فوق الرصيف..وحيدة

تشكوك.. لك.

أي الديون عليك..

نقضيها..

لتنهب بيدرك.

أرجوك..

قل لي واسترح

وأرح سؤالي مرة..

كي يعذرك.

ما الشعر..إلا أنت

إذ تبقى معي..

فلأنت أبسط من طلاسم بعلبك

وعشتروت.

ولأنت أوصل من كتابات

الفنادق..والمقاهي

أنت آنق من نسيج العنكبوت

أنت القصيدة..

قبل أن يمضي بها الشعراء

أنت قصيدة النهر..

الذي.. لا يعرف الإملاء والإنشاء

بل .. أنت الرغيف

الشمس حين تصبح واضحة

فتصهل في مرابطها الخيول..

ولأنت منحدر الزهور..

إذا مضت..

تعطي الشفاه..

لكل أنسام الحقول.

ولأنت.. أنت الله فينا..

روحه

روح الكتابة إذ تعمر

من نقوش الأولين..

إلى العبارة في فمي

ولأنت عمر الآه فينا

أنت عمر السيف

عمر الخيل..

عمر أبي العلاء

ولأنت عمر شقائق النعمان

في خد الفتاة..

وأنت عمر الياسمين..

دموعه..

لرصيف بعد الظهر

حين يمر فيه العاشقون

أو..

لاحتفال يدين ترتعشان أول مرة

عند ارتباك القبلة الأولى الحرون.

ولأنت عمر الوجد

بالوجد انتصرنا مرة

ثم.. انكسرنا..

بانكسار الوجد فينا..

ثم خلفنا ..

الدفاتر.. والمآذن

والنقوش..

ودار مية..

والوقوف على الطلول.

ولأنت.. أنت..

الغالب.. المغلوب..

مائدة الشجن.

ولأنت .. أنت..

سلاسل الزباء في روما

وأنت البرق..

في أفق الوطن.

بل ..أنت.. أنت..

سلامنا.. وكلامنا..

بل أنت خاتمة الكلام.

فعليك منا..

يا حبيب الآخرين..

ويا أخانا..

يا ابننا الغالي

التحية.. والسلام.