الحدث- ريم أبو لبن
تتسابق أعين المارة عند قطع الشارع في العاصمة المصرية، فالموت وارد في كل لحظة، وقد تزج نفسك في ازدحام الحياة هناك وتسارع إيقاعها، وقد تشاء في لحظة "سكون" أن تجلس قرابة مقهى شعبي يدعى "زينب خاتون" في مصر القديمة، أن تفر هارباً من ذكريات قد أثقلت كاهلك وحمّلتك عبء غياب أخيك تامر أبو ظاهر، والذي فرَّ هارباً من واقع يعيشه هو وأهله في قطاع غزة، لتعلق، وبعد سنوات، صورته الشخصية على جدار كتب عليه "مفقود بسفينة للمهاجرين وبتاريخ 6/9/2014، والمبحرة تحديداً من مدينة دمياط بأقصى شمال مصر إلى إيطاليا".
يدعى تامر فتحي أبو ظاهر، وهو في العقد الرابع من عمره، وكان يقطن مع عائلته في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، أي إلى الجنوب من مخيم البريج. والدته مصرية الجنسية والوالد فلسطيني، ويحاوره في تفاصيل حياته اليومية إخوته الخمسة وأختهم الوحيدة، وهو متزوج ولديه طفلان.
لم يجد تامر منفذاً آخر للهروب من واقع البطالة في قطاع غزة غير اللجوء "للهجرة غير الشرعية"، لا سيما وأن محاولاته المتكررة لإيجاد عمل قد باءت بالفشل، وقد كان طموحه أن يحصل على وظيفة مدرس للتاريخ، وهو بذلك لم يكن يعلم أن قصته وقصة غيره من المفقودين قد تكرس في التاريخ، وقد تذوب معالمها وتنسى.
من هنا كانت البداية...
تقودك قدماك المتسختان بمياه الصرف الصحي المتسرب إلى ذاك الحي المزدحم وسط القاهرة، لتصعد أدراجاً وأدراجاً، وتصل عتبة البيت الصغير، وما أن تدوس قدماك المكان حتى تُغلق أمامك نوافذ المنزل حتى لا تفر الكلمات هروباً ويسمع صداها الجيران أو السلطات المصرية.
"أنا عارفة إنه ابني تامر موجود وبحس بيه وفي الحلم حكالي ما تخافيش أنا كويس". جملة قد تجدها والدة "المفقود" تامر أبو ظاهر ملاذاً للهروب من وجع قد يصيبها إثر غياب ابنها تامر. فمنذ العام 2014 حتى يومنا هذا لم تصلها أي معلومات تؤكد وفاة تامر، والذي كان ضمن قائمة المفقودين في السفينة التي خرجت بحراً من غزة إلى الجانب المصري، وبطريقة "غير شرعية".
بالعودة إلى بداية القصة، أي لحظة الاستماع لنبأ غرق السفينة المبحرة من شواطئ الإسكندرية إلى إيطاليا بتاريخ 6/9/2014، قالت والدة تامر لـ "الحدث": "ابني تامر خرج من قطاع غزة هو وأصدقاؤه الثلاثة من مخيم المغازي، وانضم للسفينة المهاجرة بطريقة شرعية، وكان على متنها حوالي 29 فرداً من عائلة بكر".
أضافت: "غرقت السفينة ولا نعلم حتى اللحظة مكان ولدي تامر، ولن أتوقف عن البحث وأنا أعلم أنه حي يرزق".
واستكملت حديثها: "في البداية توجهت إلى مصلحة سجون مصر حتى أستفسر عن مكان ابني، وإذ بأحدهم يقول لي ابنك لم يسجل اسمه ضمن المفقودين على جهاز الحاسوب، فكيف للموظف أن يستدل على فقدان تامر وهو حتى لم يشغل جهاز الحاسوب بعد؟ لماذا لا يخبروني بمكان ابني؟"
وقالت: "بس أنا حاسة إنه موجود".
الوالدة: "تامر لدى السلطات المصرية".
وبعد انقطاع الاتصال بـالسفينة التي كان على متنها المفقود تامر أبو ظاهر وغيره من سكان قطاع غزة، تضاربت الإشاعات وطفت علامات الاستفهام على السطح، فلم يتوصل أحد لغاية الآن إلى أي معلومات تؤكد أو تنفي موت أو خطف من على متنها، لا سيما وأن أحد أبناء عائلة بكر أكد لـ "الحدث" قوله إن إحدى الشائعات التي دارت حينها تقول إن السفينة قد تعرضت لإغراق متعمد، وبالمقابل لم يتم العثور على جثث.
ويذكر أنه في ذات اليوم، أي بتاريخ 6/9/ 2014، تعرضت ثلاث سفن للغرق، إذ كانت هذه السفن متجهة إلى مالطا وإيطاليا واليونان، وكانت تحمل على متنها 600 مسافر أغلبهم من الفلسطينيين، وتحديداً من سكان قطاع غزة (106 منهم هم من سكان قطاع غزة)، وكان من بينهم "المفقود" تامر أبو ظاهر.
وفي ذات السياق قالت والدة تامر: "بعض الأشخاص من قطاع غزة، ومن بينهم مقربون من المفقودين، أكدوا لي بأن السلطات المصرية قد ألقت القبض على تامر وهو في البحر، غير أن إحدى النساء من عائلة بكر، والتي كانت على متن السفينة، قد أكدت لعائلتها بعد اتصال هاتفي بالخفية من داخل السجن بأنها قد وضعت مولوداً، وبأن هناك عدداً من الناجين معها داخل السجن، ومن بينهم ابني تامر".
من عائلة المفقودين: "ما حدث جريمة في البحر"
"قالوا لي إنه قد وقعت جريمة في البحر، وقد ومات من هم على متن السفينة ومن بينهم أطفال ونساء من عائلة بكر، ولم ينج أحد منهم". بحرقة قالها زكريا بكر، أحد أفراد العائلة، مطالباً السلطات الفلسطينية بالتحرك الفوري لمخاطبة السلطات المصرية ومعرفة مصير المفقودين من أبناء العائلة ومن كان معهم من قطاع غزة.
قال غاضباً: "يجب محاكمة الجناة إن كان هناك جريمة فعلية".
بالعودة إلى الشائعات التي أذيعت في ذلك الوقت حول أسباب غرق السفينة المتجهة إلى إيطاليا، قال زكريا أبو بكر، وهو من عائلة المفقودين: "ما حدث أنه تم إغراق السفينة عمداً، حيث اختلف أصحاب المراكب فيما بينهم، وقام أحدهم بإغراق الآخر".
أما عن الرسائل والخطابات التي يوجهها أهالي المفقودين، فقد قال زكريا لـ "الحدث": "في كل عام، وتحديداً بتاريخ 6-9-2014، تقف عشرات العائلات أمام منزل الرئيس محمود عباس في غزة وهم يحملون صور أبنائهم للمطالبة بمعرفة مصيرهم، لا سيما وأن مصيرهم لا زال مجهولاً حتى هذه اللحظة، ولا معلومات عن اعتقال أو العثور على جثث".
وأضاف: "أبحر على متن السفينة المتجهة من مدينة دمياط إلى إيطاليا 29 فرداً من عائلة أبو بكر، وعدد من سكان قطاع غزة ممن فروا هاربين من الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي حدث عام 2007، حينما سيطرت حركة حماس على القطاع، وعليه سكنت معظم العائلات المفقودة في مدينة العريش الواقعة شمال شرق سيناء، وقد منعوا من دخول غزة ولم يجدوا سوى الهجرة بحراً ملاذاً يؤمن لهم العيش الكريم".
واستكمل حديثه قائلاً: "عائلة أبو بكر دفعت ثمناً كبيراً بعد حالة الانقسام تلك، حيث خرج حوالي 100 فرد من ذات العائلة إلى منطقة العريش نتيجة ملاحقة حركة حماس لهم، وقد منعوا من دخول غزة".
وبالحديث عن توفر أي معلومات عن "المفقود" تامر أبو ظاهر، قال زكريا: "لم تصلني أي معلومات تفيد بتواجد شخص يدعى تامر أبو ظاهر على متن السفينة مع المفقودين من عائلتي، وما أعرفه أنه لا توجد معلومات مؤكدة تفيد بموتهم أو اعتقالهم، ومصيرهم مجهول حتى هذه اللحظة".
وزارة الداخلية ترفض التعليق
قصة غرق قد تكون قد نسيت، وقد يتناسى البعض فتح ذات الملف الذي يدلل في مضمونه على وقوع حادثة لم تعرف أسبابها بعد، ومصير ضحاياها في المجهول، غير أن البعض يتفنن في صناعة الشائعات ويكثر منها.
مراسلة "الحدث" تواصلت عبر الهاتف مع وزارة الداخلية في غزة للحصول على معلومات تفيد بوقوع حادثة غرق سفينة 6-9-2014، ولكن الوزارة رفضت تقديم معلومات حول هذا الموضوع، وكان الرد: "لم تحدث أي هجرة غير شرعية من قبل".
أما المتحدث باسم وزارة الداخلية، إياد البزم، فقد تخلف عن موعد المقابلة التي كانت ستجرى عبر الهاتف بعد تحديد موعدها، ولم نتمكن من الوصول إليه بعد محاولات متكررة للاتصال به وإرسال رسالة نصية تفيد بغرض المقابلة.
"أنا عاوزة ابني"
"لقد أرسلت رسالة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل سنوات ولم يصلني الرد حتى اللحظة... أريد ابني تامر"، هذا ما قالته والدة تامر لـ "الحدث".
وقالت وهي تمسك صورة ابنها: "هل هو ميت؟ هل هو معتقل؟ هل خطف؟ عاوزة أعرف".
وفي ذات السياق وجهت أم تامر رسالة تقول فيها: "لقد توفي والد تامر وأنا توليت من بعده تربية أبنائي الخمسة وأختهم الوحيدة، وجميعهم لا يعملون بسبب الأوضاع الاقتصادية في غزة، وكانت الهجرة هي الملاذ الوحيد لابني تامر وغيره من الشباب، فالوضع في القطاع يزداد سوءاً، والهجرة لن تتوقف، اليوم تامر وغداً أخوه الأصغر".