الإثنين  29 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"النُّبوءَةُ الَّتي تُحَقِّقُ ذاتَها.. وتطبيقاتِها في السُّلوك والثَّقافات والسِّياسات" بقلم: رائد دحبور.

2017-08-08 12:45:46 AM
رائد دحبور

يرتبطُ مفهوم النُّبوءَة الَّتي تسعى من خلال السُّلوك والحوافز إلى تحقق ذاتها بجملَةٍ من المعتقدات والأفكار كالاعتقاد بفكرة " انتظار الخلاص والتَّمهيد لذلك من خلال انتهاج سلوكٍ ما، أو الاعتقاد بالمُخلِّص والإمام المُنْتَظَر، أو التَّعلُّق حتَّى بكاريزما القائد المُلْهَم المعصوم " فكل ذلك ينبثِقُ عنه سلوكٌ يسير في سياقاتٍ تستهدف التأكيد على صحَّة المُعتَقد حول النُّبوءَة.. وذلك ينقلنا للحديث عن ما يُسمَّى بنظريَّة التَّوَقُّعات الَّتي لها أثرٌ كبيرٌ في تحديدِ طبيعة اتَّجاهات السُّلوك البشري.

 

ثمَّة في علم السُّلوك التَّنظيمي ما يُسَمَّى بـ " نظريَّة التَّوَقُّعات " – وعلم السُّلوك التَّنظيمي علمٌ حديثٌ يبحث في سيكولوجيَّة السُّلوك التَّنظيمي للأفرادِ والجماعات في بيئة مؤسَّسات الأعمال وفي سياقات واتِّجاهات العلاقات التَّفاعليَّة بين الأفراد في مضمار الحياة الاجتماعيَّة بشكلٍ عام، وهو لصيقٌ بنظريات علم الإدارة الَّتي تُعنى بتطوير أداء العاملين في مؤسَّسات الأعمال بشكلٍ خاص.

 

و" نظريَّة التَّوقُّعات " تُعَدُّ كأحَدِ أدوات قياس الدَّوافع والحوافز لدى العاملين، ومعاينة طبيعتها وتحديد اتَّجاهاتها وبالتَّالي العمل على توجيهها وتطويرها. وتُعنى تلك النَّظريَّة بتفسيرِ – والتأكيد على -  زيادة دوافع العمل لدى العاملين في مؤسَّسات الأعمال انطلاقاً من الفرضيَّة التي تقول: إنَّ اتِّجاهات سلوك العاملين وطبيعتها تجري وفقاً لما يتوقَّعه العاملون من مُكافآتٍ ماديَّة أو معنويَّة لقاءَ ما يقومون به من أعمال؛ بحيث يُشَكِّلُ ذلك أحد دوافعهم لزيادة مستوى الأداء في العمل، للوصول إلى مستوىً أكبر من الفاعليَّة والكفاءَة والكفاية في الإنتاج؛ وفي محصلة كل ذلك الوصول إلى تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من أهداف لمؤسَّسة الأعمال في مجالات زيادة الإنتاج والمنافسة والتَّميَّز في أسواق المال والأعمال.. وتَجِدُ نظريات علم السُّلوك التنظيمي بما فيها نظريَّة التَّوقُّعات ونظريَّة خلق الدَّوافع والحوافز للسلوك، تطبيقاتٍ لها من خلالِ منظومة وأنظمة المكافآت الخاصَّة بالمؤسسة؛ وبالتَّالي تصبح تطبيقات هذه النَّظريات جزءَاً من شخصيَّة المؤسَّسة وشخصيات الأفراد العاملين فيها، وهي في هذه الحالة تسلك منحى ما يمكننا اعتباره تطبيقاً لمفهوم " النُّبوءَات التي تسعى إلى تحقيق ذاتها " من خلالِ التَّركيز على سلوكٍ ما أو ذي طبيعةٍ خاصَّة يحقق للمؤسسة وللأفرادِ العاملين فيها كيانهم المادِّي والمعنوي، وكَسِمَةٍ وخاصيَّةٍ من سماتِهم وخصائصهم المعنويَّة والماديَّة المرتبطة بطبيعة الأهداف الَّتي يسعون إلى تحقيقها.

 

المُهِمْ.. لا تقتصرُ تطبيقات نظريَّة التَّوقُّعات التي تتناول آليَّة خلق الدَّوافع والحوافز للسلوك في مجال الأعمال فحسب؛ فهي تحاول تفسير سيكولوجيَّة دوافع وحوافز السُّلوك البشري بما هو عام، والمرتبط بالوصول إلى الغايات التي تحقق الذَّات الفرديَّة والجماعيَّة – في نطاق تطبيقات وتجلِّيات علم نفس الهويَّة الجماعيَّة للمجموعات والمجتمعات البشريَّة - وعلى ضوءِ ما تفرضه المنظومات والأهداف الثَّقافيَّة والأخلاقيَّة والدِّينيَّة والسِّياسيَّة.

 

فنَجِدُ على سبيل المثال أنَّ منظومات التربيَّة والتَّوجيه السُّلوكي الدِّيني يرتبط بمفاهيم الثَّواب والعقاب، وكذلك نجد تطبيقات القوانين المدنيَّة – حتَّى – تستند إلى منظومة تعريف وتصنيف الانحرافات السُّلوكيَّة بين مُخالفاتٍ وجُنَحٍ وجرائم؛ بحيث تسهم كل تلك المفاهيم والمنظومات في توجيه السُّلوك على نحوٍ ما وتلقاءِ تحقيق هدَفٍ ما ماديٍّ أو معنويٍّ أو أخلاقيّْ.

 

في هذا المضمار نَجِدُ أنَّه لا بدَّ لنا من الإشارة – ولو باقتضاب - إلى نَمَطَيْنِ أساسِيَّيْنِ من الثَّقافات البشريَّة التي حددت سياقات تاريخيَّة كان لها أثرٌ بارزٌ في حياتنا المعاصرة – وسيكون لها ذلك الأثر في المستقبل أيضاً -  النَّمط الأوَّل هو نمطُ الثَّقافات " الهند أوروبيَّة " الَّتي نشأتْ في محيط بحر الخَزَرْ جنوب روسيا وامتدَّت إلى إيران ثمَّ إلى آسيا الوسطى فشمال العراق وجنوب الأناضول وكذلك نحو شمال وسط أوروبا في حدود الألفْ الأولى قبل الميلاد، ومن ثمَّ انتقلتْ إلى بلاد الإغريق في حدود المئة الثَّالثة قبل الميلاد ومنها عبرَ شرق المتوسِّط وشمال إفريقيا إلى وسط أوروبا على يدِ الفلاسفة المسلمين – كابن رُشد الَّذي نقل أفكار وفلسفة الإغريق وخصوصاً فلسفة سقراط – قُبيل عصر النَّهضة في أوروبا أواسط القرن السَّادس عشر..

 

وهناك مجموعة الثَّقافات السَّاميَّة الَّتي نشأتْ شرق المتوسِّط وامتدَّت إلى بلاد الرَّافدين وأصولُها كنعانيَّة، وقد ارتبطتْ بالأديان السَّماويَّة الثَّلاث – اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام – ومع أنَّه من الصَّعب رسم حدود فاصلة وواضحة تماماً بين هذين النَّمطيْن من الثَّقافات – مع ملاحظة تأثير التَّفاعلات العميقة بينهما عبر التَّاريخ؛ فلم تَخْلُ كلتا الثَّقافتين من تأثير المعتقدات المثيولوجيَّة الماورائيَّة  التي تخصُّ بدءِ التَّكوين على سبيل المثال– إلَّا أنَّه يمكننا ملاحظة فارق أساسيّ بينهما وهو طبيعة نظرة كلا الثَّقافتين للتَّاريخ، وطبيعة تأثرهما مع بعضهما في سياقاته:

 

فالأولى: وهي الثَّقافات الهند أوروبيَّة، قد نظرت للتَّاريخ على أساسِ كونه مساراً لولبيَّاً تراكميَّاً صاعِداً لا يرتبطُ بنهايةٍ محدَّدة؛ لذا فقد كان فعلها معرفيَّاً أنتجَ علوماً وحضاراتٍ مدنيَّة، وابتعدَ في الغالب عن النُّبوءَات المتَّصلة بنهاية الأزمان الَّتي تحدد إيقاعات حركة تلك الأمم التي تنتمي لذلك النَّمط.

 

أمَّا الثَّانيَة: وهي أنماط الثَّقافات السَّاميَّة، فقد نظرت للتَّاريخ على أنَّه يسيرُ وفقَ خطٍّ مستقيم ينتهي بيومِ الحساب، وقد ارتبطت سياقات حركتها الجمعيَّة التَّاريخيَّة والأخلاقيَّة والثَّقافيَّة بجملَةٍ من المعتقدات والأهداف المتَّصلة بنبوءَاتٍ تؤكِّدُ على قربِ نهاية الأزمان وبيومِ الحساب، وأنَّ تحقق تلك النُّبوءَات والمعاني المثيولوجيَّة يُسْهِمُ في تحقيق مفهوم الخلاص الأبدي.

 

مع تأثير الأوصوليَّة المسيحيَّة – التي تستند إلى كتب العهد القديم - في ثقافة الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة بعد اعتناقها المسيحيَّة في القرن الثَّاني الميلادي؛ بدأتْ تأثيرات المعتقدات حول التَّمهيد للخلاص تؤثِّرُ في سياسات تلك الإمبراطوريَّة واستمرَّ ذلك في أوروبا بشكلٍ منهجيّ حتَّى ما بعد بداية عصر النَّهضة بقليل،

 

واستمرَّت تجلِّياته حتَّى عصرنا الحاضر مع تنامي وتيرة اليمين المسيحي المتطِّرف في الولايا ت المتَّحدة وفي بعض البلدان الأوروبيَّة – وقد وجدنا تجلِّيات ذلك واضحة في سلوك إدارة جورج دبليو بوش – ونجدُ تجلِّيات الاعتقاد بالنُّبوءَات قد أثَّرت في السَّابق في خلق أو تبرير دوافع الحربين العالميتين، ونجد ذلك قد تجلَّى وما يزال في تحديد سياقات ومكوِّنات سيكولوجيَّة الصِّراع العربي الإسرائيلي؛ لذا فإنَّ أيَّ مسيرةٍ سياسيَّة لحلِّ ذلك النِّزاع تجدُ صعوبَةً بالغة عندما تتناول بحث القضايا المتِّصلة بالجذور الثَّقافيَّة الدِّينيَّة المتباينة التي تحدد النَّظرة للمقدَّسات – الماديَّة والمعنويَّة – والَّتي تتصلُ بها جملة من النُّبوءَات التي تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال الأفعال المنهجيَّة الاختياريَّة للمجموعات التي تنتمي لثقافات دينيَّة متباينة.