الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اللغة بيت الوجود بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

المعنى رحمة الله

2017-08-08 12:52:45 AM
اللغة بيت الوجود
بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري
محمد الأمين سعيدي

مهما اتسع الوجود وتعددت موجوداته فإنّ للغة دورا مهما في تعريف الشيء، ووصفه، وإيجاده وكأنه كان معدوما قبل اللغة. فهذه الأخيرة لا تقتصر على التواصل أو الكلام، وإنّما هي برهان الوعي وأداة الإدراك البشري. وهي تتسع لكل شيء عدا المجهول الذي لم نكتشفه بعد، وتُعرّف كلّ شيء، أيْ أنها تعطي لكل شيء معناه. ولأنّ الإدراك يختلف في كل زمن جديد، في كل مجتمع أيضا، فإنّ المعنى يظل رحّالة يحمّله البشر بما يرون من الوجود وما ينعكس من مظاهره على إدراكهم وتصوراتهم. ولذلك تكونُ اللغة بهذا الطرح بيت المعنى، وبيت الوجود أيضا.

 

وبرغم كون الإدراك فرديا، إلا أنه يتحرّك بواسطة الجمعي، بتلك المكتسبات التي تتأتّى لدى الإنسان من أسرته ومجتمعه، أيْ أنّ ثمّة إدراكات يصل إليها الفرد لكنّها من نتاج النسق الجماعي أو على الأقل هي منتجة تحت تأثير ذلك النسق.

 

ولهذا يختلف المعنى من ثقافة إلى أخرى، فما يُعدّ غير محتشم في اللباس عند المسلمين مثلا هو ذاته الاحتشام كله عند الأمريكيين على سبيل المثال. وبهذا يؤكّد المعنى على دورانه الدائم رغم أنّ الشيء واحد، وعلى استمراره في الترحّل والاختلاف عبر الزمان وعبر المكان وعبر الإنسان.

 

وسبب هذه الترحلات يعودُ إلى الإدراك دوما، وأيضا إلى الرؤية إلى الشيء. وبرغم أنّ لكلّ إنسان رؤية خاصة به كيف حدث أنْ اتفق الناس على كثير من المعاني سواء كانت اجتماعية أو دينية أو سياسية؟؟ولماذا تتفق الجماعة على ما يختلف حول الأفراد إذا سلمنا أنّ لكل واحد وجهة نظر، ورؤية خاصة إلى الحياة؟

 

أشرنا سابقا إلى تأثير النسق الثقافي العام الذي ينشأ فيه الفرد، لكن هذا ليس كافيا لتفسير بعض الاتفاقات الرهيبة حول معنى من المعاني بين غالب البشر؛ الزواج مثلا، وقد ذهبتْ كثير من الدراسات إلى أنّ الرجل القديم لم يكن يتزوّج ويستقرّ مع امرأة واحدة، وإنما يمارس الجنس مع أكثر من واحدة.

 

ثم جاء معنى الزواج، وبرغم أنّه عمَّر طويلا بين البشر إلا أنّ الغرب اليوم، وكثير من أفراده، استحدثوا معنى آخر أو رابطة جديدة تقتضي أنْ يعيش الرجل مع المرأة دون أي رابط مقدس. ولعلّ سبب هذا بداية هو ابتعاد الإنسان الغربي شيئا فشيئا عن الكنيسة، وبذلك ترحّل المعنى إلى قيَم أخرى مختلفة، وربما مناقضة لما كان عليه من قبل.

 

ولمحاولة الإجابة عن الأسئلة التي طرحنا سابقا يمكن القول إنّ ما يوحّد البشر على معنى واحد هو المصلحة وليس الأخلاق بالدرجة الأولى لأنها أيضا نتاج براغماتي خالص. ولذلك تحدث اتفاقات عفوية حول كثير من المعاني، وحين تتغيّر المصالح يتغيّر معها المعنى. وتكونُ اللغة دوما الوصّافة لكل اتفاق أو افتراق حول معنى ما، وسيأخذ الإنسان دائما المعنى الذي يراه في مصلحته، وحتى في جانب الدين مثلا تعددتْ المذاهب لاختلاف المصالح، ويستفتي الإنسان أكثر من شيخ ثم يأخذ لا بالأكثر برهانا بل بالمناسب لمصلحته.

 

تبقى أمامنا هنا حالة أخرى:العدمية، أو موت المعنى. ولعلّ الوصول إلى هذا الحكم القاسي هو نتاج مثالية زائدة إذْ كيف يقبل إنسانٌ يحمل هذه الأفكار بمعنى قطع اليد مثلا، ولذلك سيظلّ معاديا لمعاني الجماعة شاهدا على موتها، وباحثا عن معناه هو.

 

وقد يموت دون أنْ يقف عليه، كما قد يجده بعد بحثٍ مضن وتفكير كثير في بسمة امرأة جميلة تطلّ من نافذة حافلة منطلقة ولا يعرف اتجاهها ولا يمكنه اللحاق بها، كما قد يجده في قبر كُتب على شاهدته:هنا يرقد المعنى رحمه الله.