الإثنين  29 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الصدق مفتاح الفرج بقلم نور عودة

وعَلامَةُ رَفْعِهِ الفِكْرَة

2017-08-09 12:17:17 PM
الصدق مفتاح الفرج
بقلم نور عودة

عند زيارة الطبيب، يتوقع المريض من طبيبه التشخيص الدقيق والصدق في التواصل حتى يتمكن من التماثل للشفاء، وبهذا يكون الطبيب صديق المريض؛ لأنّه يصدقه القول مهما كان القول هذا قاسيًا أو صعبًا؛ لأن الصدق في هذه العلاقة هو مفتاح الشفاء أو التسليم بقضاء الله وقدره في أسوأ الأحوال.

 

بعد هزيمة نظام الأبارتايد العنصري في افريقيا الجنوبية، أدركت القوى السياسية أنّ الانتقال لنظام ديمقراطي وتعددي مبني على العقد الاجتماعي الذي يساوي بين المواطنين دون تمييز يقتضي عقد جلسات علنية يعترف فيها كلّ الأطراف بما اقترفت أيديهم من ظلم وجرائم خلال الحقبة السوداء للأبارتايد.

 

وشملت محاكم التصالح هذه كلّ الأطراف، ظالمين ومظلومين، وشكّلت الاعترافات والمواجهات الصادقة التي تضمنتها الجلسات بداية رحلة الشفاء من هذا النظام العنصري التي لا تزال آثاره الاجتماعية والاقتصادية جلية في المجتمع، رغم مرور ثلاثة عقود على انتهاء نظام التمييز العنصري، وما تضمنه ذلك من تغيير شامل للقوانين ومفهوم الحكم.

 

في ألمانيا، لا يزال المجتمع متمسكًا بسرد ودراسة تفاصيل الحقبة النازية السوداء في تاريخ هذا البلد العظيم بقدراته الإبداعية والعلمية والاقتصادية، وذلك لوجود قناعة اجتماعية جامعة بضرورة الصدق في دراسة التاريخ لضمان عدم تكرار ما تخلله من جرائم وأخطاء.

 

ورغم ما يتخلل نظام المراجعة المستمرة من مبالغة في بعض الأحيان وحساسية مفرطة تجاه إسرائيل ورضوخ للابتزاز السياسي المستمر من قبل جماعات الضغط اليهودية والصهيونية، يصعب على المراقب عدم احترام هذا الإصرار الألماني الجامع على الاعتراف بالخطايا وتخصيص موارد اقتصادية واجتماعية وثقافية مهولة لضمان عدم انزلاق النظام السياسي في ألمانيا إلى النازية أو غيرها من الأفكار الفاشية، دون أن ينتقص ذلك من تطور المجتمع المستمر وتربعه على عرش التفوق الاقتصادي والصناعي والسياسي الأوروبي.

 

في ألمانيا، لا يُسمح بالمجاملة على حساب الحقيقة وصدق سردها، ولا يؤثّر التمسك بالحقيقة التاريخية، على قسوتها، مسيرة الشعب الألماني المبهرة بكل المقاييس.

 

في مجتمعنا، قلبنا الحقيقة على رأسها، وتمسكنا بالرياء والفذلكة والتملُّق على حساب الصدق في التشخيص؛ وبالتالي، ضحّينا بما نحتاجه من علاجات للكمّ المتراكم من أزماتنا الداخلية والخارجية؛ حتى لا نضطر لمواجهة ما اقترفته أيادي قبائلنا السياسية، وكل المؤثرين الآخرين في المجتمع من أخطاء وخطايا على مرّ السنين.

 

نعاني من تداعيات انقلاب وواقع انقسام بات يتحول وبخطىً واثقة إلى انفصال كامل الأركان، ورغم ذلك نكتفي بتناقل ما يرد من تصريحات سياسية توارب الحقيقة، وتلوي عنقها، فنصبح شركاء في البلوى الوطنية الكبرى.

 

نتحدث بطلاقة واندفاع عما يعانيه مجتمعنا من أزمات في الهوية وترهل معيب أصاب مؤسساتنا السياسية، ووهن بائن تعاني منه فصائلنا وخطر المتملقين والمتسلقين على أبجديات الوطن والمواطنة.

 

لكن البلاغة في التشخيص والصراحة في تعريف الداء والدواء رهائن للأبواب المغلقة؛ لأننا، وفي الفضاء الفسيح، نصرُّ على أنصاف التشخيص وأنصاف الحلول وأنصاف الأدوية، حتى يضمن المتحدثون خطَّ الرجعة مع الجميع، وتجنُّب ثمن خدش مشاعر المتورطين في استمرار الداء ومنع الدواء عن أيِّ واحدة من أزماتنا الكثيرة.

 

هذا الانفصام والإصرار على تجنب الصدق، ينسحب على كلِّ مناحي الحياة، بحيث يعدُّ النقد مؤامرة، ويتمّ التعامل مع الصراحة في التشخيص وطرح الحلول هجومًا عدائيًّا على الشخص، أو المؤسسة، أو الفصيل، أو القيادي، أو المسؤول، أو الشخصية العامة.

 

نستمع إلى من يتشبث بعناوين سياسية كبيرة كانت في زمن ما ذات معنى، ولا نناقشهم في الجوهر، ولا نسأل: إن أجرى أصحاب العناوين تلك مراجعةً لما يكررونه من عناوين، وما يمارسونه من أخطاء.

 

والفشل يستمر عندما نعجز كمجتمع عن مراجعة حالنا بصدق ومكاشفة وتقييم تجاربنا السياسية والثقافية والكفاحية والعلمية بهدف التصويب، ونكتفي بالتغني بما كان والعيش أسرى لحالة "ألا ليت الزمان يعود"، وكأن الزمان والظرف يتجمدان خدمةً لعجزنا وتيسيرًا لافتقارنا لشجاعة التقييم الصادق التي لا تنتقص مما كان، بل تبني عليه ما هو أفضل لغد سيأتي دون استئذاننا.

 

في فلسطين، لا مراجعات، ولا تقييم؛ لأنّ ذلك يتطلب الصدق، والصدق يتوجب المصارحة، والمصارحة في فلسطين تعني الخصام. أمّا الخصام، فإنّه حالة مزرية من العداء حتى الغلو والهجوم حدّ الافتراس، ورفض أشكال النقاش كافة والمبارزة بالحجة.

 

ولذلك، في فلسطين تتراكم المشاكل حتى تصبح أزمات عميقة، وتتحول الخلافات إلى عداوة، وتبقى الأزمات، وتكبر الخلافات إلى أن نجد أنفسنا فيما نحن فيه: أزمة وطنية عميقة تكاد تقسم ظهر قضيتنا إلى الأبد، ومنظومة سياسية بحاجة ماسّة إلى تجديد يتصارع بعض أعضائها على إبقاء الحال على ما هو عليه،ويُصرّون على الإنكار والمزايدة سبيلاً للهروب من لحظة الحقيقة التي تباغتهم.

 

نحن بحاجةٍإلى صدقٍ أكثرَ، ورياءٍ أقلَّ. حالتنا السياسية ومجتمعنا يحتاج إلى الصدق والصادقين بعد أن أُنهِكَ من الدجل والدجالين.