الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نص.. المتسوّلون/ بقلم: خيري حمدان - بلغاريا

2017-08-22 09:39:24 AM
نص.. المتسوّلون/ بقلم: خيري حمدان  - بلغاريا
خيري حمدان

 

 

أوقفني في طريق عودتي إلى البيت، شاب وسيم وجادّ للغاية، بانت على وجهه معالم لؤم وكسل وعدائية. "لو سمحت من فضلك!". أجبت على الفور بأنّي لا أسمح فأنا في عجلة من أمري. تبعني على الفوردون تردّد.

- أنا لا أريد مالا، أريد كسرة خبز، دعنا نذهب للمحلّ لتجاري القريب من هنا لشراء خبز، أريد طعامًا.

 

- ألم أخبرك يا رجل بأنّي لا أرغب بالتواصل معك والاستماع لحديثك. ابتعد عن طريقي من فضلك. هذا الشاب "الجائع" تراه يمتلك قوّة تفوق طاقة قبيلة من المتخمين، يلحق بي لأشتري له بكلّ بساطة خبزًا ساخنًا، ولو فعلت ذلك لطلب مع الخبز جبنًا ولحمًا والأهم من كلّ ذلك زجاجة عرق.

 

توقّفت غاضبًا متمسمّرًا في مكاني وصحت به. "أنت في قمّة العطاء وقادر عن العمل، وأنا رجل متقاعد". في الأثناء مرّ بالقرب منّا رجل أمن فصحت به طالبًا النجدة، وسرعان ما رأيته يفرّ كالغزال مبتعدًا عن المكان.

 

* * *

من أين يبدأ وكيف يرفع عقيرته بالغناء؟ هو لا يمتلك أيّة خامة صوتية تسعفه لجذب الأنظار والقبعة أمامه تحثّه على الغناء لتمتلئ خلال ساعات مضنية بقروش صفراء.

 

انحنى إلى الأمام قليلا ومدّ يده، أدرك لوهلة بأنّه يتّخذ وضعية التسوّل فأحجم على الفور. اعتدلت قامته ثانية وجالت عيناه العسليتان بين عابري الطريق، دون أن يعيرونه أدنى انتباه. كلّ منهم في عجلة من أمره وهو النكرة الوحيد الواقف بانتظار تبعات عبثية الموقف، واغتنام أيّة فرصة سانحة.

 

مطّ صوته بصعوبة، صدر عنه فحيح انساب في زحمة وضجيج المكان، وسرعان ما أطلق نبرة أخرى أكثر نجاحًا من سابقتها، لينال سلسلة من الضحكات الساخرة وشفقة العابرين الذين رمقوه بنظرات قاسية مؤلمة، والقبعة أمامه ما تزال فارغة.

أخيرًا اهتدى إلى حلّ وسط، وبدلا من الغناء أخذ يرتّل نصوص أغنيات شعبية شهيرة، تتخلّلها مقاطع مغنّاة في الأماكن السهلة. بعد ثلاث ساعات من الجهد المتواصل واكبها انحناء واستعطاف غير منقطع للمواطنين، تمكّن من جمع ما يسدّ حاجته لشراء قليلا من الطعام وزجاجة نبيذ، ثمّ مدّ قامته لينام في ركن معتم لمبنى مهجور في رحم عاصمة أوروبية.

* * *

 

نتسامر لساعة متأخّرة من الليل في فصل الصيف القصير، تعوّد العاملون طلباتنا وأبقوا على أجهزة صناعة القهوة لوقتٍ متأخّر من الليل، وحدُنا العرب نطلب القهوة في أيّ وقت ممكن من الليل والنهار، والأوروبيون يحتسون كلّ شيء في الساعات المتأخّرة من الليل باستثناء السمراء العزيزة على قلوبنا.

 

امتدّت يدٌ من خلف ظهري وهمس رجلٌ بأدبٍ جمّ "تفضّل حلوان مولودي الجديد". أدرت رأسي ورأيت الغجريّ يكاد يطير فرحًا وفي باله أغانٍ كثيرة. تناولت قطعة الحلوى الصغيرة ووضعتها أمامي دون أن أسارع بالتهامها، لديّ رغبة كبيرة لمعرفة الطريقة المبتكرة الجديدة لكسب المال السهل.

 

- والآن، هل لكم أن تساعدوني لأشتري لمولودي الجديد عربة أطفال. عندها أعدت قطعة الحلوى إلى علبته التي ما تزال ممدودة أمام أنظار أصدقائي المشدوهين، ليس بسبب طريقة التسوّل المبتكرة، بل لامتلاك هذا النمط من البشر الجرأة للتدخّل في خصوصيات الآخرين، وقطع حديثهم دون أدنى تردّد أو وجل أو تأنيب ضمير.

 

- وأنا بانتظار من يساعدني لشراء عربة مزدوجة لتوأم أحفادي يا فتى. أبقى على الابتسامة الوديعة على وجهه، وهمس بوداعة "ما كان عليك إعادة الحلوى على أيّة حال!". اطلق الغجريّ ضحكة طويلة ثمّ استمر بتجوّله بين الطاولات والموائد، وبعد أقلّ من ساعة عاد يغنّي ويقهقهه. ركّز أنظاره إليّ، فتح علبة الحلوى ليريني بأنّها قد فرغت تمامًا. أخرج من كيس نايلون سترة شفّافة تماهي رداء رجال الإطفاء،ارتداها ووضع قبعة قبطان سفينة على رأسه ومضى في طريقه بخيلاء يتهادى طربًا. في طريق عودتي شاهدته في محلّ حلوى يشتري علبة فاخرة جديدة. ساعات الليل طويلة واعدة، والسيّاح المعتدّون بمحفظاتهم المكتنزة كثر.

 

* * *

ولّى الصيف أدباره ومضى بعيدًا خلف المحيط. الأمطار غزيرة والأجواء كئيبة، هل من متسوّل في الجوار؟