الإثنين  29 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

القصّة القصيرة جدًا، خصوصيّة البناء ومهارة القصّاص عند "أمين درواشة" 1-2

بقلم : الأستاذ صلاح بوزيّان - تونس

2017-09-11 10:32:26 PM
القصّة القصيرة جدًا، خصوصيّة البناء ومهارة القصّاص عند

{إنّ عبقرية القصّاص أن ينظرَ إلى الأشياء العاديّة نظرة غيرعادية ، لأنّ في كلّ عاديّ شيء غيرُ عاديّ ، والمهمّة الأساسيّة هي اكتشافُ غير العاديّ من العاديّ وتركيز الضّوء عليه ، لكيْ تبرز دقّتهُ وقوّتهُ وغير عاديته ، وهذا هو الفرقُ بينَ قصّاص وآخرَ}.

 

والقصّة القصيرة جدًا ،أصبحت تنال اهتمام وعناية القرّاء ، لأنّ كتّابهَا يحاولونَ اكتشافَ الغير عاديّ من العادي في الواقع المعيش ، ولكن هل القصّة القصيرة عاجزة على تبليغ وتصوير خفايَا الذات ، وغامض الحياة فالتجأ الكتاّب إلى القصّة القصيرة جدًّا ؟ هل للقصّة القصيرة جدًا ضوابط فنيّة وسما تنفرد بها ؟ وهل قصر حجمهَا سيساعدهَا في بلوغ الهدف الفنّي للكتابة القصصيّة حينمَا ننظر في تاريخ الحركات الفكرية والفلسفيّة والأدبيّة ، في العالم وفي  الوطن العربي ، نجده مرتبط بالتّحوّلات الإجتماعيّة والفكريّة والثقّافيّة الكبرى ولا ريب في ذلك ،إذ الإنسان يبدّلُ ويجرّب ويبتكرُ أساليب جديدة لفهم ذاته والتّعبير عنهَا ولتلبية رغباتهَا وحلّ قضاياها ، ولولا هذه الحركة لما استطاع الإنسانُ طرح الأسئلة والشّروع في محاولة الفهم . وتاريخ الحركات الأدبيّة {القصصيّة والرّوائيّة والشعرية والمسرحيّة} دليل واضح ، وتاريخ فنّ  الكتابة القصّصية شهد كذلك تحوّلات كبرى ، منذ الدّخول في الكتابة التّجريبيّة ، ورفض القوالب الشكليّة الجاهزة التي تحبط التّجديد ، مرورًا بالمحطّات الأدبيّة الكبرى وتأثير المدارس الأدبيّة الغربيّة في التّجارب العربية ، ولعلّ التّحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم ، وسيطرة الثّورة الرّقميّة والتّقدّم التّكنولوجي الرّهيب، والسّرعة التي ولجت كلّ أعمال الإنسان جعلت الكاتب اليوم يجد في ما يسمّى بالقصّة القصيرة جدًا أسلوبًا ووسيلة تعبير تجمعُ بينَ إرضاء قارئ مـُسرع، لا يرضَى بطول القصّة، وبينَ وضوح العبارة وتعدّد دلالتهَا. وبذلك فمن نافلة القول أنّ نمط الحياة تغيّر و تشظّى إلى أنماط حياة  ، وصارت السّرعة صفة أهل هذا العصر بكلّ تجلّياتهَا ، فالحياة اليوم في نظر الكاتب بؤرة توتّر وخزينة أسرار كبرى ومختلفة ومتعدّدة ،لا تحتكم إلى البطء المستند على الحذر، بل إلى التّدرّج السّريع والشّمولي .

 

بين هذه الثـنايَا  برزت القصّة القصيرة جدًا ،وحاول كـُتاّبهَا الاهتمام بالظّواهر الاجتماعية بأناة الوصف التّحليلي تارة ، وطورًا بإعلاء شأن الرّمز في وحدات ومقاطع وصفيّة، نادرًا ما  تتضمّن حوارًا مكتفية بالوصف ،ممّا أوقع كتاّبًا  في العرض الذّهني أثناءَ السّردِ ، فتجد القارئ يلتمسُ ملامح  الرّواية  بمعناهَا وهو يقرأ قصّة قصيرة جدًا. 

 

ولا شكّ في أن هذه التجارب القصصيّة قد عبّرت عن هموم الإنسان واقتربت منه ومن معاناته ، معاناة المستعمر والوطن المسلوب ، والغربة ، والفقر والجوع والبطالة والقلق ..كلّ ذلك في فضاء المدينة العربيّة المتحوّلة المنفتحة على الشمال والجنوب، فبقصرهَا استطاعت هذه القصّة القصيرة جدًا  أن تقتنص اللّحظات المنفلتة والفارّة والمنسيّة، وتعـملُ أدواتهَا في هذه اللّحظات التي حطّت في ظلال الصّمت وسكون العتمة وغابويّة الإقصاء داخل حياة النّاس..، وقدّم الكاتبُ هذه الصّور والحكايات في شكل فنيّ يشبهُ الومضة الرّوائيّة أو المسرحيّة أيَضًا ، ولكنّهَا ومضة بفنيات القصّ ،قصّ يحجم فيه الكاتب عن الإطالة وعن المقاطع الحواريّة أثناءَ السّرد المرسل ، ويُقـبـلُ على وصف الأشخاص ويتّوغّل فيهم ويهتمّ بهم، و بالمساحات التي تسعهم ، ومضة غنيّة بالدّلالة واللّغة والتّرميز تشدّ القارئ إليهَا ، فنجد عناية بالوصف باعتباره حكاية الأشياء ،وبالسّرد باعتباره حكاية الأعمال لأنّ الوصف والسّرد هما الطّريقتان الرّئيسيّتان لتمثيل عالم المغامرة ، ومبلغُ العلم أنّ العناية بالأقوال في القصّة القصيرة جدًا  بخيلة خاملة أو لنقلْ منعدمة ، بلْ هنالك غياب التّكافؤ بينَ السّرد والوصف والحوار، ممّا يجعل القصّة القصيرة جدًا قصصًا في داخل القصّة الواحدة ، فللعبارة الواحدة حقول دلالية تقتربُ وتبتعدُ من القارئ ، وتدخله في دوّامة التّساؤل والتّأويل ،مع حضور شرط إمكان الإبداعيّ، قصّة تحفر في الإجتماعيّ والمعرفيّ والنّفسيّ والفكريّ والوجوديّ بسرد ماؤه التّكثيف والتّرميز و العجائبيّ والتّأمّل الفلسفي ، ولا ريب فالجنس القصصي أكثر الأجناس الأدبيّة حرّية في توظيف أجناس أدبية مختلفة وفنّيات عديدة ،وتجاوز صلابة الفنّ القصصيّ بقواعده وشروطه النّظرية ، ومقاطع السّرد في عديد القصص القصيرة جدًا تؤكّد ذلك ، وأضربُ للقارئ مثلاً حضور الشعر في القصّة القصيرة جدًا ،ف{النّثرُ قد تشكّل...مأخوذًا بالشعر ، مفتتنًا به إلى حدّ الهوسِ ، حتّى لكأنّ الناثرَ كانَ يحسدُ الشاعرَ على منزلته ، أو لكأنّ النّثرَ حين يشرعُ في النّهوض ...يحاول التّملّصَ من هويته والانعتاقَ من سماتهَا .

 

إنّها رحابة الفنّ الآتية من رحابة الحياة .  إنّ القصّة القصيرة جدًا بيقظة القاصّ وامتلاكه لأداته وتميّزه   بالموهبة ،لم تكتف باقتفاء أثر الإنسان وظلّه، لترصد حركته وتسبر أفعاله  وتعبّر به عنه ، بل استطاعت أن تغوصَ في أعماقه ملازمة إيّاهُ ، واصفة لهُ ، متحدّثة عنهُ بعمق العبارة ودقّة الاستعارة ، في واقع لا يرضَى بالحدود لعمق شساعته ،وبما يسكنُ الحياة من مفاجآت غريبة تتحدّى الرّتابة ، في متون الصّمت والإرباك والخوف والأسَى،أو في خفايَا الكلام وغامض المنطق ومحدثات الأمور ، وبذلك استطاعت القصّة القصيرة جدًا  خرقَ المتوقّع لدى القارئ ، ونفذت إلى سلوك الإنسان وانحرافاته وتشوّهاته وإلى فشله وفوزه ،بلا خجل ولا وجل كشفت أنانيّته ، وبيّنت مظاهر استبداده وظلمه لذاته ولمن معه ،  في عالم أصبح قرية كونيّة تنتشرُ فيه موديلات الّلباس الفاخرة والسّيارات والتّجارب النوويّة، وينتشرُ الفقر والأمراض والمجاعات والأميّة والديمقراطية والسّفسطائيّة ،وتفاقم الحرص على جمع المال والهيام بالنّقود وبالبترول والسّلاح والتّبرّم من الكتاب حلية المجالس ،كالهيام بالقتال والحروب والفزع، بينمَا الاستعمار يستبدّ بالأرض ، في هذه المشاهد الكونيّة المتكرّرة والمتواصلة بتواصل رحلة الحياة ، استطاعت القصّة القصيرة جدًا أن تعبّر عن هذا كلّه ، وأن تنقد كلّ هذا لتبرز أعمال هذا الإنسان ، بسخرية جاءت في جُمــلٍ فعليّة قصيرة ومتعاقبة ومسترسلة ، ولكن هل يمكننا نقد  القصّة القصيرة جدًا وفقَ  معايير نقدية ومرجعيّة نظريّة تخصّ هذا الجنس الأدبي؟   وماهي  سمات  هذا الجنس الأدبي الذي يدفع النّقاد إلى التّفكير فيه . لقد اكتسبت القصّة القصيرة لنفسهَا جملة خصائصَ أحاولُ تحديدهَا من خلال هذه المقاربة النّقديّة.                                                                   

 

القصرُ والإيجازُ : 

 سمة القصّة القصيرة جدًا القصر والإيجاز ، فالجُـملُ قصيرة وإيحائيّة، يحضر فيهَا عنصر الدّهشة والتّرميز والاستعارة والسّخرية في مقاطع السّرد ،نجد ذلك في قصّة {انتظار المطر} للكاتب الفلسطيني أمين دراوشة في مجموعته {الحاجة إلى البحر} يقول{ارتميتُ في أحد المقاهي محطّمًا ، تناولتُ قهوتي ورجعتُ ثَــمِلاً ، وأنا ألعنُ كلّ شيء ، كنتُ أهتزُّ يمينًا وشمالاً ، في طريقي إلى البيت ، النّاسُ يرنونَ إليّ بعطفٍ حينًا واشمئزاز حينًا آخر ..هويتُ ، غفوتُ ، رحلتُ نحو أشجار الصّبر} ، وهنَا نكتشف قدرة الكاتب على توظيف فكرة التّيه ، إذ جعلهَا خادمة للدّلالة التي قصدهَا وللنّسيج المعنوي الذي شيّده ، وتبرز فكرة التّيه ببعديهَا ، بعدهَا الصّريح والمباشر{ تيه : ضياع} وبعدها الرّمزي،والرّمز خفيّ محتشم بطبعه يأبى الخروج إلى السّطح ، ونجد ذلك في قصّة {غربان} من نفس المجموعة {كانت الطّيور تحوم منخفضة ، والأطفالُ يلاحقونَ الفراش ، والرّجالُ والنّساءُ يتناولونَ طعامَ الغداء ،بعدَ يومٍ متعبٍ ، في لحظات هجمت الغربانُ ، وأتت على كلّ شيءٍ} يصوّر القاصّ أرق الإنسان الفلسطينيّ والعربي ، بين الأحداث الرّئيسيّة للقصّة والأحداث الثّانويّة ،ونجده نجح في تخييّب أفق تصوّر القارئ الإبداعيّ ،إذ شدّه إلى النّص وشوّقه وأمتعه بالتّلميح والتّرميز ، وأنساه القوالب الكلاسيكيّة التي تتكوّن من : {وضع البداية ــ سياق التّحوّل ــ وضع النّهاية} {في أحد الأيّام ...ذات ليلة ..} ، ولعبة الضّمائر السّرديّة {ضمير الغائب،ضمير المتكلّم } أيّ الرؤية من الخلف أيّ التبئير الصّفري أو الرؤية المصاحبة والتّبئير الدّاخلي .

 


 لتنظر رأي الصّادق قسّومة في كتابه {طرائق تحليل القصّة }ص: 163 [2]لتنظر{الشعر والشعرية} لمحمّد لطفي اليوسفي ، الدّار العربيّة للكتاب 1992 ص/78 .[3]