الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"ذئب الذاكرة مقطع من رواية "مقصلة الحالم

2013-12-10 00:00:00
صورة ارشيفية

جلال برجس – روائي أردني/ عمان

تعربش صوت ضربات أحذية حراس المعتقل، وجه الجدار، متجاوزة النافذة التي زودت بقضبان لم تصمد طويلاً أمام قسوة شموس الصحراء؛ فبدت صدئة رغم ضخامتها. 

كان سريري في المعتقل، بما عليه من بطانيات بالية كأنه سرير من الجمر، فأخذت أتقلب يميناً وشمالاً، بفعل وخزات حادة كانت تنهش شيئاً في داخلي، وتطرد النوم من عينيّ. 

غط المعتقلون في نوم عميق، فجاء شخير بعضهم، وهو يمنح اللحظة شيئاً من مزاج الأرق الذي اعتراني في أول ليلة لي في معتقل صحراوي ملقى في وسط رمال صحراوية، تصير في الصيف جمراً ملتهباً، وفي الشتاء قطعاً من جليد.

ثمة سؤال كان يطرق باب دماغي، كما تطرق ريحٌ باباً موارباً؛ لماذا علي أن أمضي عمراً في مكان ليس له مهمة سوى خنق الفكرة؟ أي فكرة تأتي كرؤية للحياة، وأنا الذي ولدتني أمي وهي ترعى الشياه، في فضاء لا يحده شيء سوى الريح والشمس!

تناهى لمسامعي عواء ذئب أتى، عبر امتداد الليل على جسد الرمال الغافية في زمن صحراوي،  موحش، كأنه يعود بي إلى زمن يسبق الخلق، حيث قسوة الفراغ.

أغمضتُ عينيَّ، أتحرى جهة الصوت، الذي بدأ على الرغم من وحشته، يغوص عبر أوردتي، ميمماً جهة القلب، ويمنحه إحساساً غريباً يشبه جرحاً، يستلذ بحبات ملح تسقط فيه، محدثة تلك اللسعة، التي عادة ما تمنح ألماً نافراً يستجلب الصحو والأرق. لكن عواء الذئب، إلى جانب الإحساس بالوحشة، ولذعة الألم في عوائه، الذي يجيء كخيط دخان عبر أفق خلا من الريح؛ كان يشيع في القلب شعوراً بشيء من الطمأنينة. لم تكن طمأنينة اعتيادية، بل إحساسا بأن هناك من يشبهك في حزنك أو يشاركك فيه.

كان الصوت يأتي من جهة الغرب، وكنت قادراً في تلك اللحظة على الرغم من عدم معرفتي بالمكان، الذي أتيت إليه في عربة عسكرية معتمة، أن أتأكد أن تلك الجهة، تشهد الآن ذئباً، يقف على تلة من تلك التلال، التي تحفل بها الصحراء، ويرفع رأسه عالياً ويعوي، بينما صوته يركض عبر ذلك الليل الذي يدهن كل شيء عبر سطوته المتطرفة.

الذئاب كائنات العراء الموحش في ليالي الصحارى المترعة بالبرد، وفي ظهيراتها الموسومة بالهاجرات الملتهبة. كائنات تعيش وتتحرك عبر قطعان، ما انفكت تشرب ماء المسافات، وهي  تتنقل من مكان إلى آخر، تتبنى رؤيتها الصحراوية، التي بقدر ما فيها من البطش المتطرف؛ فيها من الأنفة التي يتوجها وهج السموّ، وهي تعيش نسق حياتها. والقطعان في حالة من الطاعة التي تتمثل بذئاب مأمورة بالأقوى، الذي يقودها حيث يشاء، ويفرض شروطه، وحدود مكانه. بين الذئاب وجع صارخ، والبقاء بين صاحبة العواء الأزلي للقوة التي تحسم كل شيء. تتصارع أناث الذئاب، في معركة ضارية، تسيل فيها الدماء، وتتناثر الأشلاء، صراع لأجل زواج أبدي بالذئب الأقوى قائد القطيع. صراع وحشي، يتكلل بحظوة الأنثى عند قائد القطيع. بينما الأخريات وصيفات المحظية وخادماتها.

لكن ذلك الذئب بدا وحيداً، وقد لاح لي، أنه خرج على قطيعه، الذي يعوم بعيداً في بحر الليل الصحراوي. يتربص بطرائده عبر بحر المسافات الليلية. عواؤه يشج بطن الليل، لا لأن عواء الذئاب إعلان عن استعدادها للدفاع عن حدودها ضد القطعان الأخرى المجاورة، بل جاء عواؤه وجعاً يمنحه لليل فسيح كوجعه. 

بقيت في ليلتي تلك مغمضاً عينيّ، وعواء الذئب يأتي سارداً سيرة وحدته، وخروجه على قطيع ارتهن لمن طفت قوته على سطح الزمن الصحراوي، حتى غفوت، وفي أذني جوحه، الذي مثلما يحز نياط القلب، يمنحه شيئاً من طمأنينة غريبة