الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سيدي.. هل تشتري ميثاقاً..؟ بقلم: مريم ريان

2014-11-24 11:01:44 PM
سيدي.. هل تشتري ميثاقاً..؟
بقلم: مريم ريان
صورة ارشيفية

يبدو أن رائعة الشاعر والأديب الدنماركي هانس أندرسن "بائعة الكبريت" تشبه إلى حد ما الواقع العربي، مع فارق استبدال الكبريت الذي كانت تبيعه الفتاة الصغيرة بـ"الميثاق العربي".  كذلك الأمر بالنسبة لموت الفتاة في نهاية القصة مبتسمة، تخفي إلى الأبد حقيقة فرحتها بملاقاة جدتها رمز العطف والرحمة، والانتقال إلى عالم أفضل. يبدو هذا المشهد بعيداً إلى حد ما عن مولد "الميثاق العربي" الذي خرج من غرفة الولادة ميتاً. لا تعابير مفهومة لمواده، ولم يأت لملاقاته أحد..! تخيلوا لوهلة لو كان "أندرسن" عربياً يعيش في العام 1994، بعد مرور أكثر من 30 عاماً من المحاولات لإصدر الميثاق، لمدت فتاته يدها مستجدية المارين في عتمة الليالي الباردة، وقالت: "هل تشتري ميثاقاً يا سيدي"!!! ولا من مجيب..

وكان مجلس جامعة الدول العربية قد اعتمد الميثاق العربي لحقوق الإنسان في عام 1994، لكن لم توقع وتصادق عليه حينها سوى دولة واحدة فقط هي العراق من بين الدول 22 الأعضاء في الجامعة. بعد ذلك جرت عملية تحديث نجم عنها نسخة معدلة اعتمدتها القمة العربية في تونس عام 2004. وقد دخل الميثاق العربي لحقوق الإنسان حيز التنفيذ في تاريخ 16 مارس/ آذار 2008، أي 60 يوماً بعد وصل عدد الدول المصادقة عليه إلى سبعة فقط.

ثلاثون عاماً من النقاشات والجلسات والتكاليف غير المنطقية، من أجل التوصل إلى ميثاق يرضي جميع الأطراف دون فائدة تذكر. فقد بقي الحال على ما هو عليه، مواد لا تنسجم مع الشرعية الدولية ولا حقوق الإنسان. بعد أن أضاعت الفتاة حذاءها الكبير مثلما أضاعت العروش الأوطان (ليس تشبيهاً بالمعنى الحرفي، والفقير الذي يموت جوعاً وبرداً لا يبحث عن وطن)! سارت في الشوارع حافية القدمين، يرافقها اليأس من ظهور منقذ يقيها البرد والجوع والتعب. جلست الفتاة في زاوية بين منزلين وأشعلت عود ثقاب وتخيلت نفسها جالسة أمام مدفئة كبيرة، تشتعل فيها النار بروعة لا توصف فشعرت بالدفء، لكن النار انطفأت ولاحت أكثر من مادة في الميثاق وقد اختتمت بعبارة "مع مراعاة الإجراءات القانونية الداخلية لبلده" في المادة 29. حكت الصغيرة عوداً ثانياً فاشتعل وتخيلت طاولة وضع عليها ديك رومي مشوي تفوح منه الرائحة الشهية، ثم انطفأ النور لترى "الخبز والورود" يسحقه "التشريع النافذ" في المادة 33 وعبارة "بما يتفق مع تشريعاتها الداخلية" في المادة 29! والتي تشبه عبارة "بما يتفق ونظم كل دولة" التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تم اعتماده من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948 (مع الفارق الشاسع ما بين النظم التي تتبعها الدول التي صادقت على الإعلان والنظم في دولنا العربية فيما يتعلق بحقوق مواطنيها).  وأشعلت الفتاة عوداً ثالثاً، وتخيلت نفسها جالسة تحت شجرة الميلاد، إلى أن أفل عود الثقاب، فيما لم تكن الشمعات التي تتألق على الشجرة سوى نجمات السماء.. سقطت إحداها راسمة خطاً من شهب، فتذكرت قول جدتها العجوز: "إذا سقطت نجمة، فهذا يعني أن روحاً تصعد إلى السماء"، فكم من شهاب سقط في ليالي عام 1994 معلناً موت الميثاق العربي في كل يوم من أيام تلك السنة! ثم حكت الصغيرة عود ثقاب آخر فتخيلت جدتها واقفة وسط الأنوار وديعة وسعيدة، وما أن رأتها الصغيرة حتى صرخت: جدتي، جدتي، خذيني إليك قبل أن ينطفئ العود؛ أعلم أنكِ ستختفين كما فعلت المدفأة والديك الرومي وشجرة الميلاد. سارعت الصغيرة إلى حك بقية أعواد الثقاب لتحتفظ بجدتها، كما فعلت منظمات المجتمع المدني في محاولات يائسة للاحتفاظ بالأحلام التي لم تتحقق أبداً. حينها أطلقت الأعواد نوراً من نور النهار واقتربت الجدة من المسكينة وأحاطتها بذراعيها وحلقتا معاً، ولم تعد الصغيرة تشعر بالبرد ولا بالجوع. انطفأت كل الأعواد، وكانت بائعة الكبريت في زاويتها بخديها الأحمرين والبسمة على فمها، قد أماتها البرد في المساء الأخير من السنة. كذلك الميثاق رغم أنه ولد ميتاً في سبتمبر/ أيلول، لكنه مثل الصغيرة لم يحظ بمنقذ قط!

حكومات مازالت حتى اللحظة ترفض التقيد بالتشريعات الدولية أو تبني أي مقترحات قد تفرض عليها منح حق تقرير المصير لشعوبها المقهورة، وهي لا تختلف بذلك عن مثيلاتها في العالم المتقدم الذي يطبق القانون فقط في بلاده وينتهكه في بلاد أخرى! الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يمثل شيئاً بالنسبة لي كإمرأة عربية، تعاني من اضطهاد دولي لأمتها ومن هيئة أمم متحدة تنتقد الشعوب الضعيفة وتداري ما تفعله القوية منها، وتصمت عن الممارسات العنيفة والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، إضافة إلى التواطؤ مع دول جعلت من الساحة العالمية مسرح دمى، لكنه ليس مضحكاً ولا مسلياً أبداً، بل موجع ولا إنساني ودموي.

أما آخر المستجدات على ميثاقنا العربي فكان (مؤتمر المحكمة العربية لحقوق الإنسان) الذي عقد في القاهرة الشهر الماضي لدعم انضمام الدول العربية غير المصادقة على الميثاق حتى الآن، حيث تمخض عنه توصيات تدعو إلى تحديث الميثاق سواءً بتعديله أو بإبرام بروتوكول إضافي، وذلك بما يضمن تفعيل حماية حقوق الإنسان في المنطقة ولاسيما الحريات الأساسية. نفهم مما سبق أننا ما زلنا منذ عقود نطالب بالحرية وسنبقى كذلك طويلاً جداً، ولا يسعنا سوى التطلع إلى أجيال قادمة ترفع شعار "ميثاقنا.. حياتنا الأفضل".