الإثنين  14 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حالة من الجمود الدائم: شابٌ مبتور الطرف من غزة يُكافح لإعادة حياته إلى مسارها الصحيح

2019-05-29 12:01:10 PM
حالة من الجمود الدائم: شابٌ مبتور الطرف من غزة يُكافح لإعادة حياته إلى مسارها الصحيح
الشاب هيثم يكافح لإعادة حياته إلى المسار الصحيح (المصدر: الصليب الأحمر)

 

الحدث المحلي

"إذا كنت تحبّني فعلاً، لا تذهب هناك"، هذا ما قاله والد هيثم له يوم 31 آذار/مارس 2018، وهو ثاني أيام المظاهرات الممتدة على طول حدود قطاع غزة والتي استمرّت لأكثر من عام، مخلّفةً آلاف الجرحى وخسائر بشرية تُقدّر بما يفوق 200 شخص.

قطع الشاب ابن التاسعة عشر وعداً لوالديه ألّا يقترب من السياج الحدودي، ولكن بينما كان يحتسي قهوة بعد الظهر مع أصدقائه، غلبه الفضول وقرّر الذهاب إلى تلك المنطقة لإلقاء نظرة على الحدث الكبير الذي سلب عقول أهل القطاع وشغل تفكيرهم، مُقنعاً نفسه أنّه لن يقع أي ضرر من مجرد نظرة. عندما وصل إلى المكان المنشود، كان الأشخاص يتجمعون وكانت الأجواء مشحونة. وقف جانباً وأشعل سيجارته.

التدخين كان أول قرار اتّخذه هيثم كشخص بالغ في الثالثة عشر من عمره، وجاء بالتزامن تقريباً مع تركه للدراسة وحصوله على أول وظيفة له في بيع الخضراوات. لم يكن صرف حتى شاقل واحد من نقود والده على السجائر خياراً بالنسبة له، إذ فَقَدَ أبو هيثم وظيفته بعد إغلاق المصنع الذي عمل فيه 14 عاماً متواصلاً في ظل الانخفاض الحاد في الصادرات.

تسبّبت القيود التي تفرضها كل من إسرائيل ومصر على الحركة بخسائر فادحة على الاقتصاد الغزّي وكادت تصل إلى طريقٍ مسدودٍ.

كبر هيثم وهو يرى معاناة والده الذي عمل كسائق تاكسي لإعالة الأسرة المكوّنة من 10 أفرادٍ. شعر هيثم حينها أنّ المسؤولية مُلقاة على عاتقه للتدخّل وتقديم المساعدة.

قالت أم هيثم بأسفٍ شديدٍ: "كان طالباً متميّزاً وذكيّاً، وكان محبوباً في المدرسة". كالعديد من أمثاله الذين بلغوا سن الرشد مع انقطاع غزة عن العالم، لم يؤمن الشاب المراهق بفوائد التعليم الرسمي، إذ أنّ معدل بطالة الخرّيجين هنا هو من أعلاها حول العالم بنسبة تصل إلى 68%.

برّر هيثم قراره قائلاً: "يُنهون تعليمهم ويستلمون شهاداتهم الجامعية ثم يعلّقونها على الحائط ويحصلون على وظائف يدوية مثلي. لِمَ مضيعة الوقت إذاً؟".

مؤمناً إيماناً راسخاً بخلق الفرص في ظل انعدامها، كان هيثم يتجوّل في الحيّ لينبّش عن فرصته في المحلّات والورشات ومواقع البناء، فيعرض خدماته ويطلب من الآخرين تعليمه المهارات اللازمة. ونظراً لسرعة بديهته ومهاراته العالية في التشبيك، تمكّن هيثم من تطوير سيرته الذاتية خلال فترة وجيزة لتشمل مجالات البناء وصيانة السيارات والحدادة والنجارة. كما أنّ شخصيته الاندفاعية وغير الصبورة جعلته يستمتع بالوظائف التي تُلمَس نتائجها بسرعة، فقال له صاحب ورشة صيانة السيارات حيث كان يعمل مرّة: "ستتفوّق عليّ في العمل قريباً".

وبالرغم من تلك النجاحات، إلّا أنّ العمل لم يكُن كافياً والدخل كان شحيحاً، إذ استمر الاقتصاد الغزّي بالانحدار ليصل إلى أدنى مستوياته منذ حرب عام 2014. كان حلم هيثم بتوفير دخل جيّد لأسرته كسراب لا يمكن الوصول إليه، وكان صبره ينفد فقال: "لم أفوّت أي فرصة لتعلّم أشياء جديدة. وبعدها أدركتُ أنه بغض النظر عن مستوى براعتي في العمل الذي أؤدّيه، لا يوجد فرص عمل. أفضّل الموت على التعايش مع هذا الشعور".

أطفأ هيثم سيجارته واختلط مع الجماهير التي بدأت بالاندفاع أكثر نحو السياج الحدودي. يقول هيثم: "بمجرّد أن تصبح جزءاً من الحشد، لا يمكنك التصرّف على سجيّتك، فيصبح من الصعب التحكم بأفعالك". في مرحلة معيّنة، كان قريباً جداً من السياج وبدا له حينها أنّه إذا ركض بسرعة كافية يمكنه مغادرة غزة، يمكنه ترك الفقر والإحباط والعزلة في ذلك المكان الذي لا يجلب الخير أبداً. للحظة، بدا له الأمر وكأنّه يعدو نحو مستقبلٍ أفضل في مكان ما بعيداً عن غزة ومآسيها، مكان يكسب فيه رزقه ويتنفّس هواء الحرية.

استيقظ هيثم في سرير المستشفى على أوجاعه التي لا تُحتمل، وكأنّ نظرات الهلع والفزع في عيون والديه لم تكن كافية. كان من الصعب للغاية عليهما استيعاب حقيقة أنّه قبل بضع ساعات فقط كان ابنهما في المنزل معهما وهو الآن مُلقى أمام ناظريهما والرصاصة مستقرّة في ساقه ليواجه الاحتمالية المرعبة لبترٍ وشيكٍ. عادت أم هيثم في الزمن لتسترجع ذكرى أكثر القرارات التي اتخذتها طوال حياتها صعوبةً، وقالت: "أخبرنا الأطباء أنّ تأجيل عملية البتر يعني المخاطرة بحياة هيثم". أضافت أم هيثم وهي تجهش بالبكاء: "عندما خسر ساقه، خسرتُ جسدي بأكمله. لا بل فقدتُ روحي".

أمضى هيثم أسبوعاً في المستشفى، وكان يعاني من ألم فظيع. ومع تصاعد وتيرة أعمال العنف على الحدود، أُنهك النظام الصحي الهش في غزة سريعاً، خاصةً في ظل ازدياد عدد المرضى والنقص الحاد في الأدوية الذي تعاني منه المستشفيات، بما في ذلك مسكنات الآلام.

الشاب هيثم

بعد عودته إلى المنزل، عانى هيثم ممّا هو أكبر بكثير من مجرّد ألمٍ جسديٍّ، فأصبح يفقد أعصابه أسرع بكثير من السابق، وبدأ بالابتعاد عن أصدقائه القدامى شيئاً فشيئاً. يقول هيثم: "شعرتُ بنبرة لومٍ لي عمّا حصل. كان هذا السؤال يلوح دائماً في الأفق: ’لماذا ذهبت هناك؟ 'مَن لم يخُض تلك التجربة لن يفهم أبداً".  

من ضمن مليون نسمة في غزة، 1600 شخصٍ يعانون من البتر. وفي ظل المنافسة الشرسة في سوق العمل، يعاني ما يُقدّر بنصف القوى العاملة في القطاع من البطالة. كما يجد الأشخاص ذوو الإعاقة أنفسهم في وضع غير مؤاتٍ، إذ أن الطّرقات والمباني غير مؤهَّلة للكراسي المتحرّكة والعديد من الوظائف المتاحة تتطلب قوّة بدنيّة.

بعد مغادرة المستشفى، عاد هيثم إلى بيع السجائر على جانب الطريق، وهي إحدى أولى المهن التي مارسها في عمر المراهقة. في كل مرة، كانت تقف السيارة إلى جانبه ويخرج الزبون المحتمل من سيارته قبل أن يتمكّن هيثم من الوقوف وإعطائه علبة السجائر عبر النافذة. شعر هيثم بالهزيمة، ولم يحتمل فكرة إشفاق الآخرين عليه، لذا قرّر ترك المجال بعد فترةٍ وجيزةٍ. وفي ظل سعيه لخلق فرصٍ جديدةٍ، بدا مصيره مجهولاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. يقول هيثم: "في السابق، كنتُ دائم الحركة والتواجد. إنّ مقدرتي على الذهاب إلى أماكن متعددة والوصول إليها بسرعة كانت السبب الأساسي لحصولي على وظائف مختلفة".

وفقاً لإحصائيات وزارة الصحة في غزة، فَقَدَ 136 شخصاً أطرافاً منذ تصاعد أعمال العنف في المناطق الحدودية منذ أكثر من عام. في جلسات إعادة التأهيل البدني، التقى هيثم بشبان آخرين يمرّون بعملية طويلة ومؤلمة لتعلم المشي وممارسة حياتهم اليومية من جديد. كُلّما سمع عن إصابة شخص وبتر أحد أطرافه، كان يذهب لزيارته. ورجوعاً بالذاكرة إلى مشاعر العزلة التي سيطرت عليه خلال الأشهر الأولى من فترة علاجه، حاول هيثم انتقاء كلماته ليُسمِعَ المصابين ما كان يتمنّى هو نفسه سماعه في ذلك الوقت: "قلتُ لهم أنّ فقدان أحد الأطراف لا يعني أنّك ستبقى سجيناً طوال حياتك. سيبقى بإمكانك القيام بالعديد من الأمور".

في شهر نيسان/أبريل الماضي، انضمّ هيثم لفريق كرة قدم لمبتوري الأطراف. عندما ذهبتُ لأشاهد التمرين استعداداً للمباراة القادمة، لم أجده مع اللاعبين الذين كانوا يتمرّنون ويمارسون تمارين الإحماء تحت أشعة الشمس الربيعية المشرقة. وأخيراً، انتبهتُ أنه واقفٌ خارج الملعب، وكان يدخّن وحده. كان قد سكب القهوة على زيّه الجديد، ممّا سبّب له إزعاجاً كبيراً ودفعه إلى اتّخاذ قرارٍ بعدم المشاركة. ولكن بعد وهلة، وكما جرت العادة، تغيّر مزاج هيثم فجأةً وانضمّ إلى التمارين مجدداً. شاهدتُ هيثم وهو يركض ويضرب الكرة عبر الملعب بإصرارٍ وعزيمةٍ لا مثيل لهما، وكأنّه لا يمكن لأي شيء أن يقف في طريقه، ولا حتى المأزق الجغرافي السياسي الذي يسحب غزة وشعبها إلى القاع أكثر يوماً بعد يوم، ولا الأوضاع الاقتصادية المتأزّمة، ولا عزلة القطاع الصغير حيث يُعتبر السفر امتياز يطاله القلائل ذوو الحظ الوفير.

عندما تحدثنا عن المستقبل، استشعرتُ بنبرة هيثم الكثير من الشكوك المختلطة بالتفاؤل الحذر ونفاد صبره المعتاد. خلال الصيف الماضي، تعرّف هيثم على فتاة من خلال مخيم للأشخاص ذوي الإعاقة. لا يُفكّر هيثم بالزواج حالياً، فهو لا يملك المال أو القدرة على تحمّل مسؤولية المزيد من الأشخاص. بعد تفكيرٍ عميقٍ، تقدّم هيثم بطلب للحصول على منحة مشروع صغير من الصليب الأحمر ليفتتح مقهى لألعاب الفيديو في الحيّ الذي يسكن فيه، وهو واثقٌ بأنّه سينجح. يقول هيثم: "لقد أرسلت الطلب الأسبوع الماضي ولم يصلني ردٌّ بعد. في حال رفض الطلب، سأجد شيئاً آخر. لقد سئمت من هذا الجمود الدائم".

المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر

الشاب هيثم

الشاب هيثم