الحدث - جنى حسان
قد تشكل التصنيفات التي يضعها أفراد المجتمع سبباً لانتشار أنواع مختلفة من الأمراض النفسية، فالأفراد يضعون مجموعة من المقاييس للجمال ويتعاملون معها على أنها مسلمات، ولعل أبرز هذه المقاييس، تلك المرتبطة بالوزن وشكل الجسم، مما يدفع بالكثيرين، لإنقاص أوزانهم حتى وإن كانت مثالية رغبةً في الوصول إلى الجسم المرغوب فيه اجتماعياً، بغض النظر عن الآثار الصحية الناجمة عن ذلك، مما يحول رغبة فقدان الوزن من محافظة على الصحة، إلى مرض يدمر الصحة النفسية والجسدية، يطلق عليه علماء علم النفس فقدان الشهية العصابي "الأنروكسيا".
عانت الطالبة الجامعية ر.أ -21 عاماً- من مرض فقدان الشهية العصابي لعامين متتاليين دون مراجعة أي طبيب، وقالت إنها اعتادت منذ صغرها على وجودها في بيئة ترى أن الجمال مرتبط بالجسم النحيف، فأي شخص سمين، يبدأ المجتمع بالتعامل معه على أنه يعاني من عيب ما، وبالتالي تولد لديها خوف شديد من زيادة وزنها رغم تمتعها بجسم صحي ووزن مثالي، فأصبحت مهووسة بفقدان الوزن لتبدو في نظر المجتمع أكثر جمالاً.
"أصبحت أخاف من رؤية الطعام، لا أريد أن آكل، أحاول منع نفسي من تناول الطعام، وأحسب كل سعرة حرارية أكلها، فلا أكل أكثر من 300 سعرة في اليوم، وأحياناً لا آكل أي شيء، إذا نظرت في المرآة، أركز على كل شيء في جسمي، فأتوهم بوجود الكثير من الدهون وأن الجميع سيراها، مما سيظهرني بطريقة غير جميلة أمامهم"، تتابع ر.أ، مؤكدةً أنها في بعض الأحيان كانت تحرم نفسها من الطعام لدرجة أنها تستيقظ في الليل تبكي من شدة الجوع، ولكنها تفضل الموت على أن تأكل طعاماً قد يزيد من وزنها، كما أنها كانت تجبر نفسها على تقيؤ كل شيء بعد الأكل للحرص على عدم تكدسه في جسدها، على حد تعبيرها.
وأشارت الطالبة الجامعية، إلى أنها كانت تمارس الرياضة بصورة مفرطة، دون أن تدخل على جسمها أي مصدر للطاقة، بالإضافة إلى أنها كانت تتجنب المناسبات الاجتماعية ولقاءات الأصدقاء خوفاً من انهزامها أمام الأكل؛ أصبحت منطوية ومنغلقة على ذاتها، وكانت أسوأ كوابيسها أن يزداد وزنها ولو بضع جرامات.
رغم فقدانها لوزنها، إلا أنها لم تسلم من تعليقات الناس من حولها، "هل تعتقدين بأن مظهرك يبدو جميلاً هكذا؟ هل تريدين الموت؟ لقد أصبحتِ جلدة على عظمة، وغيرها من الكلمات كانت تتردد على مسامعي باستمرار، دون أن يعرف أحد بمعاناتي أو مراعاة لمرضي، فمن النادر ان تجد أحداً يعلم به، وقد اتهمني كثيرون بأن سلوكياتي هذه ليست سوى طريقة للفت الانتباه، رغم أنني كنت بالفعل أعاني معاناة شديدة" تستأنف ر.أ حديثها.
لم تكن عائلتها تعلم بمرضها، فقد حرصت الطالبة الجامعية على إخفائه عنهم، فعندما كانت والدتها تطلب منها تناول الطعام، تخبرها أنها قد تناولته بالفعل في مدرستها، ولكن وبعد أن بدأت تظهر عليها مظاهر الإعياء، والشعور بالدوخة المستمرة بالإضافة إلى الخمول والبقاء على السرير لساعات طويلة دون طاقة، علمت والدتها بمرضها.
ولعدم وجود وعي اجتماعي كافي بضرورة اللجوء إلى طبيب مختص في هذه الحالة، فلم تلجأ عائلتها إلى مختص، بل اكتفت بتوجيه التنبيه لها بضرورة تناول الطعام، ومحاولة تغيير تفكيرها من خلال توجيه الانتقادات لنحفها وجسدها، مما أدى إلى تفاقم الحالة.
لم تستسلم ر.أ لمرضها، بعكس الكثيرين الذي كانوا على حافة فقدان حياتهم نتيجة للمرض، فبدأت بمعالجة نفسها من خلال برامج الإرشاد النفسي على مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهدة حالات وصل بها الأمر إلى فقدان حياتها، مما دفع بالطالبة الجامعية إلى التفكير بأن النحافة الزائدة ليست إلا مرضا ينبغي التخلص منه، واليوم تعيش ر.أ حياة سعيدة، وتتمتع بصحة جسدية ونفسية جيدة على حد وصفها.
من ناحيتها، عرفت الأخصائية النفسية آمال دحيدل مرض فقدان الشهية العصبي على أنه " فقدان الوزن غير الطبيعي، والخوف الزائد من اكتساب الوزن"، موضحة بأن المصابين بهذا المرض يحاولون فقدان الوزن بطرق غير صحية، والتي تتمثل في الحرمان من الأكل، والتقيؤ، والممارسة المفرطة للرياضة، إلى جانب التحكم في عدد السعرات الداخلة إلى الجسم.
وقالت دحيدل، إن الأعراض النفسية للمرض تتمثل في الابتعاد عن المناسبات والتجمعات، تجنباً لتناول الطعام، والكذب حول كمية الطعام التي يأكلها المصاب، بالإضافة إلى قياس الوزن بشكل متكرر خلال اليوم، وتفحص الجسم على المرآة باستمرار والشكوى من ظهور بعض الشحوم، واللجوء إلى ارتداء الملابس الفضفاضة لإخفاء أجسادهم.
"ليست مقاييس المجتمع، والأوصاف التي يطلقها أفراده السبب الوحيد للمرض، فقد ينتج عن وجود وسواس قهري للمصاب حول مظهره ومظهر جسده، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تلعب دوراً كبيراً في انتشار المرض، نظرا للإعلانات وعارضات الأزياء شديدات النحافة اللواتي يتم الترويج لأجسادهن على أنها مقياس الجمال، لهذا تجد الكثير من النساء يلجأن لحميات غذائية قاسية بهدف الحصول على جسم نحيل للغاية".
وفي هذا السياق، أشارت أخصائية التغذية لينا عابد، إلى أن هذا المرض قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى حد الموت، نتيجة لفقدان العناصر الغذائية، وعزوف المصاب عن الطعام بشكل تام في المراحل المتقدمة من المرض.
"من أبرز الأعراض الجسدية؛ فقدان الوزن السريع، بالإضافة إلى الأرق والإغماء وتساقط الشعر وضعف الأظافر، ويعاني المصابون به من أنيميا حادة وجفاف الجسم"، تقول عابد.
وحول المضاعفات الجسدية الخطيرة، أكدت أخصائية التغذية عابد، أن المرض يؤدي إلى مشاكل في العظام كهشاشة العظام وتورم المفاصل، ومشاكل النمو الجسدي عند الأطفال والشباب، كما أنها قد تؤدي إلى مشاكل أكثر خطورة في القلب كعدم انتظام ضرباته وفشله، وانخفاض ضغط الدم وخلق مشاكل في المخ والأعصاب تؤدي إلى تشنجات وصعوبة في التركيز وسرعة النسيان، ومن المضاعفات الأخرى أيضاً انخفاض نسبة الأملاح والسكر في الجسم، وتلف الكبد والكلى.
وأوضحت عابد أن المصابين بالأنروكسيا تظهر لديهم سلوكيات غذائية خاطئة، كاستخدام الملينات بكثرة ومدرات البول ومثبطات الشهية كطريقة لزيادة حرق الجسم، بالإضافة إلى تجنب الأكل مع الآخرين والهوس في السعرات الحرارية الموجودة في كل وجبة.
ويمكن الكشف عن المرض جسدياً من خلال تحليل الدم للتحقق من الأملاح والبروتينات فيه، وتحليل الغدة الدرقية، ويلجأ المختصون أيضاً إلى قياس وزن الشخص المصاب ومقارنته بمتوسط من هم في مثل العمر والجنس والطول، والحرص على فحص المؤشرات الحيوية كمعدل ضربات القلب وضغط الدم ودرجة الحرارة، وفقاً للأخصائية عابد.
وشددت عابد على ضرورة زيارة اختصاصيي التغذية لأخذ استشارة تساعد المرضى على اتباع العادات الغذائية الصحية، واستعادة نمط الغذاء الطبيعي، فضلاً عن التمكن من الأكل بشكل متوازن.