الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حرب أيار/ مايو 2021: توقف القتال ولم تنتهِ المعركة| بقلم: علاء أبو عامر

2021-06-01 09:34:04 AM
حرب أيار/ مايو 2021: توقف القتال ولم تنتهِ المعركة| بقلم: علاء أبو عامر
علاء أبو عامر

سألني صديقٌ ماذا نُسمي معركة غزة ذات العشرة أيام، أجبت حرب أيار/ مايو 2021، هكذا ستدخل التاريخ الفلسطيني، وربما العربي والعالمي أيضًا، حيث تعودنا أن الشهور هي أسماء المعارك التي تجري فيها، قال ربما حرب "الأيام العشرة" قلت أيضًا ممكن، فهي النقيض لحرب الأيام الستة سيئة الوقع على الأذن، لما تمثله من هزيمة عربية عامة، أمّا تسمية "سيف القدس" الفلسطينية و"حارس الجدران" الصهيونية، فهما تسميات مرحلية ستسجل في الأدبيات لدى كلا الطرفين.

عاود السؤال: «وماذا عن الانتفاضة التي واكبتها؟»، أجبت: لا هذه مختلفة، لن تحمل اسم السنة ولا الشهر، بل ستسجل باسم نقطة انطلاقتها الأولى "انتفاضة الشيخ جراح"، والأدق انتفاضة "اللد والشيخ جراح"، هكذا نستطيع دمج الحدثين الأهم معًا، الأول المسبب المباشر لها، والثاني هو الدافع الجوهري المتمثل في الاحتلال والاستيطان والإحلال العنصري، وهناك تسميات أخرى شاملة مثل انتفاضة "استعادة الوعي الوطني الفلسطيني العام".

من الشيخ جرّاح وحتّى غزّة: هبّة فلسطينية شاملة

نادت القدس – زهرة المدائن وقبلة المسلمين الأولى وقيامة السيد المسيح – "منشان الله.. يا غزّة يلا"، استغاثت كما فعلت المرأة العمّورية في استغاثتها بالمعتصم العباسي، فوعدت غزة بالنجدة، وهددت: "إن لم تتوقفوا، سيأتيكم ردنا ولن نخذل قدسنا". استهزأ المستسلمون للعدو من أبناء جلدتنا؛ عربًا وفلسطينيين، بوعيد غزة الفقيرة والمحاصرة من الجميع، صهاينة وعربًا وفلسطينيين. نفضت غزّة الحرة عار التخاذل والاستسلام وامتشقت السيف كعادتها، وخاضت معركة غير متكافئة بكل المقاييس، وأدمت ظهر العدو، فزغردت فلسطين؛ كل فلسطين من نهرها لبحرها، هتافًا لغزة والقدس. تلاحم الجسد الفلسطيني من رفح وحتى عكا ساحلًا، وداخلًا في اللد والرملة ووادي عارة وغيرها من المدن والقرى.انتفضت فلسطين الداخل وتحررت اللد لساعات وطردت المحتلين وحدثت «المعجزة».

سقط صاروخ غزي فلسطيني واحد على القدس وهرب الصهاينة، بعضهم ولى الأدبار، وآخرون التصقوا بالجدران، وانتهى احتفالهم بذكرى توحيد القدس كعاصمة لهم، تلا ذلك مئة وخمسون صاروخًا على عاصمة الكيان الغاصب تل أبيب، فانبهر الجميع داخلًا وخارجًا، عربًا وعجمًا ومستعمرين.. لقد فعلها الغزيون وقلبوا الطاولة على رؤوس الأعداء والمطبعين والمتخاذلين والجبناء. عاد المشهد إلى ما قبل ثلاثة وسبعون عامًا، قبل قيام الكيان الغاصب صنيع الصهيونية المسيحية والغرب الاستعماري المتعالي على جراحنا، أضحينا وكأننا في عام 1948، لكن بوعي جديد وتصميم أكيد على إزالة عار العرب ورفع رؤوسهم بعد نكستهم عام1967.

لم تتأخر فلسطين الداخل والقدس وغزّة، لكنّ الضفة الغربية فعلت وكأنها مريض أصابه الشلل، إلا من بعض أعضاء تتحرك بثقل. الكل انتظرها، لكن ضفة الأحرار تأخرت، لأنها مثقلة بحمل يفوق طاقتها اسمه اتفاق «أوسلو»، وملاحقة أمنية. ومع أنها أقرب للقدس، إلا أنها مكبلة باتفاقيات يعني الخروج عنها إزالة رأسها ونهاية سلطتها؛ أي عملية "سور واقي" جديدة. وأمام حيرة مركز القرار القيادي الفلسطيني الذي تفاجأ بالحدث وضخامته، حاول  بعض الكتاب من أعداء الفعل المقاوم وصف الأحداث بالمؤامرة الإيرانية تارةً، والنتنياهو-الحمساوية للإطاحة بفتح تارةً أخرى.

ضدّ الاستعمار والانقسام: عن هتافات الهبّة

كان الشارع في الضفتين الفلسطينية والشرق أردنية ومخيمات الشتات وتجمعات الاغتراب يغلي، وتسابقت الحراكات الشعبية في الضفة لإعلان التمرد والثورة على الواقع المُكبّل للسلطة، تدفق المئات إلى الشوارع، وعلى رأسهم الفتحاويون سادة الثورات الفلسطينية المعاصرة ومفجريها، في هتاف دوّى في عاصمة السلطة الفلسطينية رام الله، وقف بوقعه شعر الرأس: "يلي بتحكوا انقسام.. فتح بتهتف للقسام"، هذا الهتاف كان بمثابة إلغاء لكل الحجج التي سيقت لعدم التمرد على الاتفاقيات المذلة، والتي جعلت الفلسطيني حبيسًا لها، وشجعت العربي الرسمي المتواطئ كي يتحالف مع العدو، وجعلت العربي اللصيق بالفلسطيني غير مبالٍ بفلسطين بعد أن أصبحت القضية رواتب ورفاهية وبطاقات VIP. وحولت الفلسطيني الضفاوي زئبق التحرر في المنطقة عاجزًا عن التمدد تجاه باقي أرجاء وطنه، بعد أن قُمعت هبّاته المتواصلة منذ حرب عام 2014، وانتفاضة السكاكين عام 2015، وحتّى انتفاضة البوابات الإلكترونية عام 2017، وصولًا إلى الانتفاضة الفلسطينية العالمية المتمثلة بحركة مقاطعة «إسرائيل» BDS.

أمام عجز السلطة ووهنها وانشغالها بالحكم والصراع الداخلي بين فتح وحماس وتيار «دحلان»، كانت هناك حركة شبابية فلسطينية تتصاعد يوم بعد يوم، غير مرئية تلفزيونيًا لكنها مسموعة، لتحل مكان الأجسام الفصائلية الهرمة والعاجزة والمستسلمة. عملت بصمت أحيانًا، وبصخبٍ أحيانًا أخرى، وصنعت انتفاضة الشيخ جراح، وحركت العالم لصالح فلسطين.. نعم الانتفاضة الحالية هي انتفاضة هؤلاء الشباب الذين حلوا محل القيادات الرسمية العاجزة والهرمة، فأنتجوا واقعًا جديدًا، وغيروا شكل الصراع وأعادوه إلى جذوره واقعًا أصيلًا دون تزييف، بشعار واضح "يجب إزالة الكيان الغاصب ودحر الصهيونية"، والإزالة ليست جراحية بل إحلال مبادئ إنسانية مكان العنصرية، لكي تكون فلسطين الديمقراطية العلمانية؛ فلسطين كل مواطنوها متساوون حقوقًا وواجبات دون تمييز عرقي أو قومي أو ديني، مكان إسرائيل العنصرية الاستعمارية العدوانية التوسعية المجرمة.

لقد حوّل الشباب الفلسطيني المُتسلح بكل أنواع الأسلحة وأبرزها التكنولوجيا الرقمية، قضية فلسطين إلى قضية إنسانية عالمية، أصبحت من جديد قضية أحرار العالم. لقد سبق الشباب قياداتهم التقليدية وتحرروا من الاتفاقيات والاعترافات المذلة، وطبقوا عبارة شاعر فلسطين محمود درويش: "ما أكبر الفكرة، ما أعظم الثورة.. ما أصغر الدولة".

"عشرة أيام هزت العالم"، ليست عنوانًا لفيلم أو رواية أو كتاب هذه المرّة، بل واقعًا جديدًا فُرض على العالم. نهضت فلسطين من تحت الركام، لتذكر العالم بجذر الصراع، صراع بين حق وباطل، بين صاحب الأرض الأصلاني، والغريب المهاجر المستعمر اللاإنساني.

هل هناك ما كسبه الفلسطينيون؟

توقف القتال ولم تنتهِ المعركة، لكن تكشّف في خضمها الكثير. أولًا، فشلت الحركة الصهيونية في تقسيم الشعب الفلسطيني كما ظنت بين خمس تجمعات منعزلة بعضها عن بعضها؛ فلسطينيو الداخل وقدس والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، حيث بيّنت الأحداث الأخيرة أن الفلسطينيين قبضة موحدة في وجه الاحتلال. ثانيًا، فشلت محاولات الأسرلة التي مورست على فلسطيني الداخل المحتل، فالفلسطيني هناك وبعد ثلاثة وسبعين عامًا حافظَ على هويته وعنفوانه الثوري. لقد أزاح فلسطينيو اللد وعكا  وحيفا ويافا والرملة والناصرة وأم الفحم وشفا عمرو وسخنين وغيرها الاسم المقيت لديهم "عرب إسرائيل" ليحلوا محله انتمائهم الوطني؛ فلسطينيون وحسب.

ثالثًا، تبين أنّ الاعتراف الرسمي بين منظمة التحرير الفلسطينية وكيان الصهاينة وفق اتفاق أوسلو، لا يعني أي مواطن فلسطيني سوى القيادة الرسمية، وثبت أن الفلسطيني ما زال يعتبر فلسطين الكاملة أرض وطنه، وما زال مُصرًا على العودة إليها. رابعًا، ثبت أن أصدقاء فلسطين في العالم هم الشعوب، وأبرزها شعوب أمريكا وأوروبا، بينما الحكومات هي نصير العدو الصهيوني وحليفته وحاميته وضامنة استمراره وقوته. خامسًا، ثبت أن الكثير من يهود العالم أصبحوا يعارضون سياسة الكيان الغاصب، كونها أصبحت تُثقل كاهلهم، وتسيء لصورة اليهودي بطريقةٍ تُعطل أعمالهم ومصالحهم، وبعد هذه المعركة أصبحت دولة الصهاينة وجرائمها أكثر ثقلًا، لذلك يُلاحظ انخفاض الدعم اليهودي العالمي لدولة الصهاينة.

سادسًا، ثبتَ أن تمسك دول أوروبا بخيار حل الدولتين هو تمسك ببقاء الكيان واستمراره، وقطع الطريق على النموذج الجنوب أفريقي الذي يعني فلسطين كاملة وتطبيقه في فلسطين، مما يعني نهاية الأيديولوجيا الصهيونية. وعليه سيكون من الخطأ فلسطينيًا الموافقة على ذلك والسعي وراءه. سابعًا، شعر المطبعون العرب بالخزي بعد انتفاضة الشعب الفلسطيني، وهذا سيؤثر مستقبلًا على وقف عمليات التطبيع التي انفلتت دون وازع أخلاقي أو قومي أو ديني، ووصلت الى درجة التحالف.

المقاومة دائمًا: عن الدروس المستفادة

لا يُثبّت الحقوق التاريخية سوى النضال. وثبتَ أنّه إن كنتَ صاحب رواية وحقوق تاريخية دون نضال دؤوب متعدد الأشكال بنفس طويل، فإنّ ذلك لن يمنحك حقًا في أرض أو وطن. عندما تستكين تفقد حقك، فكما الأرض بحاجة الى الماء لترويها وتمنعها من الجفاف والتصحّر، كذلك الوطن بحاجة للتضحيات حتى يشعر بوجودك وانتمائك إليه.

أن تبقى في حالة اشتباك مستمر مع العدو هو الانتصار، أن تُقلقَ راحته، أن تمنع استقراره، أن تُشككه في جدوى ما يفعل، أن تفاجئه من حيث لا يحتسب، أن تعري روايته هي انتصارات. الانتصار ليس فقط رمي صاروخ وطلقة بندقية، الانتصار أن تتحدى وتتصدى ولا تُهزم من داخلك مهما حصل ومهما كبرت جبهة الأعداء، حتى لو كان بينهم من تظنه أخًا لك. الانتصار هو أن تبقى شعلة تنير لرفاقك الطريق بالقلم والسكين والحجر، بكل ما يتوفر لديك.

وفي المحصلة، سُيسجّل تاريخًا ومستقبلًا أن معركة أيار/ مايو 2021 أخرجت الفلسطيني من حالة الاستسلام والانتظار والعجز، إلى حالة الاصطدام والتحدي والمقاومة مع المحتل الغاصب، والأهم أن هذه الأيام المجيدة أثبتت أن نكباتنا جاءت مع ملاحقة فريق منّا للوهم، ورغم فشله استمر بتسويقه. لقد أخرجتنا هبّة أيار/ مايو 2021 من حالة الوهم وثقافة الهزيمة إلى الوعي الوطني، وهو سبيل الانتصار حاضرًا ومستقبلًا.

سيحاول الغرب – وكذلك بعض العرب – سرقة إنجازاتنا وتحويلها إلى هزيمة. لذلك، على القيادات الفلسطينية أن تحافظ على ما أنجزنا، وأي قبول بالعودة إلى ما كان قبل انتفاضة الشيخ جراح يجب أن لا يتم. اطووا تلك المرحلة، فقد جربتم 25 عامًا ولم تحصلوا إلّا على الخيبات. لا تعودوا إلى ما جُرّب؛ العودة إلى المفاوضات العبثية على أساس اتفاق «أوسلو» مدمر، ألقوا هذا الاتفاق في سلة القمامة، فقد كان جيدًا في المرحلة الأولى لتهريب وتخزين السلاح والتدريب  والعودة، لكنه أصبح عبأً وقيدًا، تحرروا من عقلية العجز وانتقلوا إلى شعار "نستطيع أن ننتصر، وسننتصر".

ليست مهمة المقاوم أن ينتصر، بل تلك مهمة السياسي بأن يحوّل كفاح المقاوم إلى نصر، يجب أن لا يُخذل المقاوم وأخيه المنتفض المناضل في الداخل والخارج. الإنجاز أمانة في عنق من سيفاوض أو يُحاور، لذلك لا تقبلوا بحلول تنتقص من الكرامة ولا تقبلوا بالذل. ما دامت فلسطين تُقاوم، فهي تستطيع الوصول إلى الانتصار.. المقاومة هي الإجابة دائمًا.