الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سماح إدريس.. اللبناني الذي احترف الفلسطنة

60 عاما من الأدب والمقاومة والوفاء لفلسطين

2021-12-02 01:41:38 PM
سماح إدريس.. اللبناني الذي احترف الفلسطنة
الراحل سماح إدريس

الحدث- سوار عبد ربه

"إنسان مبدئي ثابت، ودود ومتّقد المعرفة، مؤثر مباشر بالأدب العربي، مثقف، لا نبالغ إن قلنا إن الكلمات لا تصفه وتوفيه حقه أبدا"، بهذه الكلمات وصف أصدقاء الراحل سماح إدريس، صديقهم الذي غيبه الموت مساء الخميس 25/11/2021 بعد صراع مع مرض السرطان.

لم يهدأ أصدقاء إدريس ورفاقه وطلابه، وحتى الذين لا صلة مباشرة لهم به، منذ إعلان نبأ وفاته من نشر صوره، وتعداد مناقبه وتبيان حجم الخسارة برحيله، عربيا وفلسطينيا، فالكل أجمع على "رحيل مناضل شرس، دافع عن القضية الفلسطينية وكأنه أحد أبنائها، أمضى عمره القصير في الميادين يهتف لفلسطين، وفي أزقة المخيمات يرسم البسمة على وجوه اللاجئين، وبين الورقة والقلم، يكتب عن فلسطين ولأجلها".

وللوقوف عند تفاصيل مرضه، وكيف تلقى المقربون منه نبأ وفاته، وحول رحلة حياته القصيرة والغنية تواصلت الحدث مع مجموعة من أصدقائه.

وقال الأكاديمي في الجامعة اللبنانية في بيروت شوقي عطية في لقاء مع صحيفة الحدث: "إن الموت باغت سماح وباغتنا به باكرا، فرحلة سماح في صراعه مع المرض لم تتعد بضعة أشهر، إلا أنه كان مدركا تماما لما ينتظره، وهو قال في أول تعليق له على مرضه أمامي: "سأواجه المرض وسأقوم بكل ما يلزم لأحاول التغلب عليه وأنا جاهز لكل شيء، وإن كان الموت هو نهاية المطاف، فـ "شو يعني، منموت".

وبحسب عطية، السرطان استطاع أن يهزم إدريس لكنه أيضا انتصر في بعض معاركه في حياته وحتى بعد الموت، إذ كان في صراع دائم مع موقع "فيسبوك" حيث لا كاد يمضي شهر إلا ويحظر حسابه الخاص أو حساب مجلة الآداب، بسبب مواقفه المعادية لدولة الاحتلال، ولكل المطبعين معها والمهرولين خلفها، وها هو بعد موته أصبح الشغل الشاغل لهذا الموقع ولكل مواقع التواصل الاجتماعي، فانتشرت صوره عفويا من خلال محبيه، وهو ما حفز من لم يعرفه أن يتعرف عليه بعد أن رأى هذا الكم من الحزن واللهفة على غيابه.

وإدريس هو رئيس تحرير مجلة الآداب الورقية والإلكترونية، له كتابان في النقد الأدبي، وأربع روايات للناشئة، وإحدى عشرة قصة مصورة للأطفال، وعشرات الدراسات والمقالات والكتب المترجمة.

"الثوريون لا يموتون أبدا.. بل يخلدهم التاريخ"

أشار الأكاديمي إلى أن موت سماح جعل فئة جديدة من الجماهير تتعرف عليه من خلال إعادة قراءة ما كتب والتعرف على سيرته، مؤكدا على أنه مناضل، والمناضلون لا يموتون، قد تغيب أجسادهم إلا أن فكرهم يبقى إلى الأبد وخاصة حين يكون تأثيرهم قد طال هذا العدد من الناس.

بدورها، قالت الناشطة الحقوقية فداء عبد الفتاح من لبنان لصحيفة الحدث، إنه من الصعب جدا استيعاب فكرة غياب سماح عن ساحات وميادين النضال كافة وعلى رأسها القضية المركزية فلسطين، كما هو صعب أن نصدق أن سماح قد يغلبه السرطان وهو من واجه غددا سرطانية لا تحصى على مساحة هذه الأمة، مشيرة إلى أن خسارته كبيرة ليس لأهله ومحبيه ووطنه فقط، بل للعالم العربي والعالم أجمع.

ووصفت عبد الفتاح، -التي تعرف إدريس منذ أكثر من 20 عاما-، بأنه مناضل من خارج الأطر التقليدية، "ومن خلاله أدركنا أهمية المواجهة المدنية بدءا من مقاطعة علبة الكولا وصولا إلى المقاومة المسلحة التي تصب مجتمعة في قلب المواجهة ضد العدو الإسرائيلي، فهو لم يكن يفصل بين المقاومة المدنية والمقاومة المسلحة وكان يعمل على تكاملهما في مواجهة العدو".

من جانبه، قال الإعلامي اللبناني عماد خليل، إن الغياب يرسم مسارا قلقا حين يخطف قامة كقامة سماح إدريس، لأنه كرس الثقافة في خدمة القضايا العادلة، لا سيما قضية الصراع العربي الصهيوني، الأمر الذي عمق الوجع، لأن الموت جاء ليرسم الحد الفاصل، في خضم المعركة، وفي وقت شكل سماح إدريس بصمته المقاومة لأجل فلسطين، والأمة العربية.

مسيرة حياته النضالية وتأسيسه لحركة المقاطعة

في هذا الجانب أوضح الأكاديمي شوقي عطية، أن نضال سماح في العروبة والقضية الفلسطينية بدأ منذ مراهقته، فهو ابن بيت نضالي وملتزم أشد الالتزام بالقضية، وقد عرف عن كثب عددا كبيرا من المناضلين الذين كانوا يزورون والده الدكتور سهيل، ففلسطين بالنسبة لسماح لم تكن قضية عابرة أو سلما يتسلقه حين تكون الموجة في التسلق وينزل عنه عند إنهائها، بل كانت قضيته الأهم، كرس لها كل حياته وكتب فيها حتى قبل أيام من مماته.

لكن إدريس لم يكن وحيدا، فقد اجتمع حوله عدد متنامٍ من الملتزمين بالقضية الفلسطينية، وهو كان قدوة لهم في الالتزام، وكان المرجع بالنسبة لهم إذا أرادوا سؤاله عن أمر يتعلق بالمسألة الفلسطينية وعن مقاومة التطبيع ومناهضته، لأنه أدرك أن المقاومة هي السبيل الوحيد في استرجاع الحق المسلوب، لذلك ظل من المناصرين للمقاومة بشكل عام وللمقاومة في لبنان بشكل خاص حتى آخر رمق، بحسب عطية.

وفي سؤال حول ما إذا كان نضال سماح، فرديا أم أنه كان مثالا لشريحة واسعة في المجتمع العربي، قال عطية: "حين يكون الشخص ملتزما كسماح من المستحيل أن تبقى قضيته فردية، فكيف إن كانت القضية هي المسألة الفلسطينية التي تعني الملايين؟ هو كان مثقفا ملتزما لم تغنه شهادته عن طلب المعرفة والعلم، فحين كان يحرر مقالة في مجلة الآداب تراه يغوص في الاختصاص المبحوث فيه ولا يدع شيئا يفوته إلا ويتحرى عنه.

واعتبر د.عطية أن إدريس كان مثقفا مشتبكا، ولم يبق ثقافته لنفسه بل سخرها في خدمة الصراع، الأمر الذي جعل منه، وممن سبقه من المثقفين المناضلين، قدوة للأجيال مثلما كان الراحلان جورج حبش وأحمد (أبا ماهر) اليماني وغيرهم من الملتزمين بالقضية الفلسطينية قدوة لسماح".

وحول تأسيسه لحركة المقاطعة في لبنان، قال الإعلامي عماد خليل إن سماح إدريس ينتمي إلى الحرية الفكرية، ورأى القومية العربية فكرة مناهضة لفلسفة الحضور الصهيوني، لذا أدرك خطورة التطبيع، وأدرك أهمية المقاومة الفكرية التي تكمل المقاومة المسلحة، فانصرف ثائرا ومناضلا، ليكسر صنمية المثقف التقليدي، وقدم المثقف الثوري العضوي الذي يذهب إلى ساحات المعركة بالفكر، وأسس وعمل في مشروع مناهضة التطبيع، بعد المد المرعب للأنظمة العربية نحو التطبيع.

وأضاف: "سماح إدريس ذهب إلى المواجهة الفعلية لمناهضة التطبيع، ودخل معارك عديدة في هذا المضمار، واستطاع أن يشكل جبهة وطنية محلية، تحظى بتأييد من كل عربي يؤمن بالحق العربي وتحديدا الحق الفلسطيني".

أما الناشطة الحقوقية فداء عبد الفتاح، فتتبعت مراحل تأسيس سماح ورفاقه لحملة المقاطعة، موضحة أنه أسس حملة مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال وبدأ بالسلع الاستهلاكية ووصل إلى العمل على المقاطعة الثقافية والفنية والرياضية وباتت المقاطعة الشاملة لكل ما يصب في مصلحة ودعم الكيان شغله الشاغل مع رفاقه في الحملة.

وتابعت: "ما قام به من نشر الوعي على أهمية ومركزية دور المقاطعة في صراعنا مع العدو الإسرائيلي كان مدخلا لمواجهة مرحلة التطبيع بوعي أكبر وفهم أكبر لكيفية فهم تغلغل هذا الكيان داخل مجتمعاتنا من خلال الثقافة والفنون والرياضة وغيرها، فتطبيع الأنظمة لم يكن يوما صاحب قيمة لأن القرار والخيار للشعوب، وإدريس ورفاقه لعبوا دورا مهما جدا في متابعة وملاحقة كل تحرك أو موقف يصب في خدمة مشروع التطبيع والمطبعين".

الأسرى يدعون له بالشفاء.. ثم ينعونه

كان إدريس مهما إلى الحد الذي استطاع فيه أن يشغل خبر مرضه ولاحقا وفاته، الأسرى في سجون الاحتلالين الإسرائيلي والفرنسي، فقال الأسرى في رسالتهم عقب وفاته "من خلف القضبان، ومن وراء الجدران، والأشياك، من بين أنياب الصهاينة نبرق لأسرتك وأحبتك ورفاقك ورفاق دربك، ننعاك بكل فخر وشموخ وأسمى آيات النضال، ننعاك مثقفا ورفيقا ومقاتلا في سبيل الحرية التي قضيت من أجلها".

وحول دلالة هذا الأمر قالت الناشطة الحقوقية فداء عبد الفتاح إنه من الطبيعي أن يشغل موت سماح إدريس الأسرى في سجون الاحتلال فهو يحمل قضيتهم ويناضل من أجلهم من خلال مجلة الآداب ومن خلال حملة المقاطعة ومن خلال تواجده في كل مناسبة مرتبطة بقضية الأسرى.

وأردفت: "لم ننظم نشاطا للأسرى لا يوجد فيه سماح، ولم نكن يوما في الشارع من أجل حرية جورج عبد الله، إلا وكان سماح أول الواصلين، فهو مناضل بالفعل وبالممارسة على الأرض، بين الناس ومع الناس بعيدا عن العراضات، ولأجل ذلك ليس مستغربا  أبدا أن يراسله جورج عبدالله من سجنه وأن ينعاه الأسرى في سجون الاحتلال وأن يشعر الكثيرون من أصحاب قضايا الحق بأنهم خسروا مدافعا ومقاوما شرسا وقف إلى جانبهم وإلى جانب قضاياهم بكل شجاعة حتى النفس الأخير".

واتفق الأكاديمي عطية مع عبد الفتاح في أن إدريس شغل نفسه، خلال حياته، بقضية الأسرى في السجون وكلما تعمقت مظلوميتهم، كلما كان انشغال سماح بهم أشد وأكثر عندا.

وخصص إدريس للمناضل جورج عبدالله القابع في السجون الفرنسية منذ 37 عاما، مساحات واسعة من مجلة الآداب، ومن نضاله اليومي، حتى أصبحا صديقين.

وفي هذا الجانب، قال عطية إن ادريس وعبد الله كانا يتبادلان الرسائل، حتى تكونت معرفة بينهما من خلال المراسلة، ولاحقا تطورت علاقة إدريس بعائلة عبد الله وأصبح صديقا لهم، والأمر نفسه ينطبق على الأسرى في السجون الإسرائيلية حيث رافق سماح عددا من الأسرى في عدة محطات وخاصة معارك الأمعاء الخاوية الأخيرة، وهكذا أصبح سماح صوت الأسرى خارج المعتقل.

وتابع: "سماح لم يتخل عنهم في أشد الأوقات وكان كلمتهم، وهذا ما دفعهم إلى مراسلته مرارا وتكرارا حتى كتب له جورج عبد الله قبل أيام من وفاته معبرا عن مدى ثقل "صدى الكبوة الصحية" التي يمر بها سماح، قائلا له "كن سالما أيها الرفيق العنيد ومنارة لمسارات تحرير فلسطين وجماهير أمتنا العربية".

بدوره، اعتبر الإعلامي عماد أن اهتمام الأسرى بإدريس جاء لأنه لم يتخل عن دوره بالمطالبة بالحرية من أجل الأسرى الذين ينتمون إلى القضايا العادلة، لاسيما لبنان وفلسطين، فهو كتب، وشارك في الاعتصامات التي تدعو إلى إطلاق سراح الأسرى، بل كان رأس حربة من خلال كتاباته، ومؤسستة المناهضة للتطبيع، ومواجهته المستمرة للمعتدي.

وحصد إدريس ثمار جهوده معهم من خلال مواقف الأسرى التي جاءت كتعبير صادق عن تعب الوجع الذي خطف سماح إدريس والقضايا تعيش صراعها مع العدو.

الستيني الطفل.. محبوب الأطفال

إلى جانب نشاطه السياسي والنضالي اهتم سماح بالأطفال وكتب لهم القصص، وكان طفوليا بامتياز في تعامله معهم، إذ ألف عشرة كتب للأطفال (الموزة، الكل مشغول، أم جديدة، تحت السرير، قصة الكوسى، البنت الشقراء، مشمش وغيرها).

وفي هذا الجانب قال الأكاديمي شوقي عطية -الذي عرف إدريس لأكثر من عامين، واستطاع أن يكون معه علاقة صداقة قوية ومتينة-: "لن يعرف سماح إلا من يجالسه، لأنه سيصدم من مدى نقاء هذا الإنسان، واصفا إياه بالبريء الوديع، كما أنه يجلب البسمة لكل من يتعامل معه، فما يمكن أن تعتبره من البديهيات المضجرة، قد يكون مثيرا لاهتمامه وفرحه، لأن في داخل هذا المناضل العنيد الشرس، الذي لم يتخل عما يؤمن به ولم يساوم يوما مهما تعرض لمضايقات وتشهير، طفل وديع".

وتابع: "هذا ما يفسر سبب كتابة إدريس للأطفال، ولماذا كان يقرأ لهم في المخيمات والأهم لماذا كان يكتب بالعربية الصحيحة ويقرأ بها لهم، واستذكر عطية فترة الإغلاق الأولى التي حدثت في لبنان بسبب جائحة كورونا العام المنصرم، كيف أن الجميع حزن على حرية نزعت منه، إلا إدريس حزنه كان لأن فرحة لقاء أطفال المخيم نزعت منه".

ولأجل ذلك، سجل الراحل قصصا ونشرها عبر موقع يوتيوب، وكان يرفض أن يقص عليهم قصصا عالمية، لأنه   فضل أن يقرأ قصصا كتبت في مجتمعهم، في بلادهم، بلغتهم الأصلية، لأنه يريد ما يربطهم بهذه البلاد، لا ما يربطهم بالخارج، فكانت القصة عند سماح، كالرواية عند غسان كنفاني، مقاومة، تربط بين الأطفال وقضيتهم، وبلادهم، وهي ما يبقي فلسطين في ذاكرة الأطفال حية إلى الأبد، لأنه كان يدرك تماما أن فلسطين ليست قطعة أرض فحسب، بل هي فكرة ونضال مستمر حتى النصر، وفقا لعطية.

أما الإعلامي عماد فيرى أن عالم الأطفال عند سماح إدريس فكرة مستقبلية، ورؤية لبناء الوعي، لأن كي الوعي مطلب الأعداء، فكيف يقابل المثقف العربي هذا المطلب؟، كما أنه ذهب إلى عالم الأطفال كاتبا، وقارئا، ومشاركَا، لاسيما أطفال المخيمات لأن فلسطين الوطن يجب أن تستمر وعيا وثقافة.

من جانبها، قالت الناشطة الحقوقية فداء عبد الفتاح إن لسماح مع الأطفال قصة عشق لن تنتهي، عشق متبادل بينه وبينهم، لأنه يحمل قلب طفل غير تقليدي عطوف وحنون ويهوى المشاكسة المحببة، قدم لهم أروع القصص الهادفة بأسلوب لا مثيل له.

وفي تجربة شخصية لفداء مع قصص إدريس، قالت إن ابنتها بفضله أحبت "الكوسا بلبن" من عمر الأربع سنوات، حيث كانت قصة "الكوسا" الأحب إلى قلبها ويجب أن تقرأها لها يوميا قبل النوم حتى أنها حفظتها عن ظهر قلب، وسجلتها "فيديو" أرسلته إلى سماح الذي طار فرحا وقال: "إنها تلقيها أفضل منه".

وأردفت عبد الفتاح: "كان معرض الكتاب بالنسبة لي ولأولادي هو معرض سماح إدريس هكذا أصبح اسمه بالنسبة لنا، لأن جناح دار الآداب كان الوجهة الأولى والمحببة لأولادي للقاء "عمو سماح" وعندما كبروا لاقاهم بكتب للناشئة تحمل ألف عبرة وعبرة من فلافل النازحين إلى الملجأ وقصة النصاب.

وقبل وفاته كان الراحل سماح إدريس يكتب قصة بعنوان "القمر"، لم يعلم رفاقه إن كان قد أتمها أم لا، لكن قمر إدريس انطفأ، والقصة ستذهب طي النسيان، وسيبقى أثر سماح إدريس حاضرا خالدا، فالثوريون لا يموتون أبدا.