الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مخيم الزرقاء...ذاكرة رمضانية

2023-03-27 10:58:23 AM
مخيم الزرقاء...ذاكرة رمضانية
مخيم الزرقاء

تدوين- ناصر الريماوي*

بوّابة مخيم "الزرقاء"، وسوق الخضار الكبير الذي لم يكن هنا. لعشرين عاما متتالية ووليمة الإفطار في كل عام تأخذنا، عبر تلك الطريق، أنا وبعض أصدقائي، إلى حارات المخيم العتيقة. بدءا بالمساء ثم السحور وحتى صبيحة اليوم التالي.
في المخيم، لم يحدث وأن زرتُ بيتا أو مكانا هناك ثم تمكنت من العودة إليه دون أن تختلط الدروب في ذهني بعد يوم واحد فقط، لأضيع.

بادرني صديقنا المضيف والذي يقطن بيتا حنونا وسط حاراته الضيقة، بعد أن التقطَ قامتي الكئيبة وهي تتسول الظلّ أمام شوادر السوق الصغير .. قال معاتبا: للمخيم ذاكرة حيّة تحرسه وتحميه، ذاكرة مستقلة تماما عن وعي المدينة المحاذيه له، الغارقة بفوضى الصخب والقلق.

أجبته : ربما أتيه لهذا السبب في كل مرّة.

فالدروب الضيقة تودّعنا بابتسامة المنتمي لتلك الذاكرة المغايرة، وما أن تُشيّعنا نحو بوابته، حتى تطوي أسهم اللافتات الارشادية وتعيد تشكيل الاتجاهات على نسق المتاهة..!

يضحك عاليا ونحن نقف أمام السور المنخفض لبيت اللجوء الذي يقطنه، المثقل بظلال عريشة العنب الصغيرة، وهو يؤكد لنا.. بأن ما أقوله أمر مبالغ فيه، بل هو خال من الصحة، فالشوارع والبيوت في المخيم، وحتى الأزقة، تتطور وتنمو كغيرها من الأماكن، وأما المتاهة فهي الهاجس الفطري المقيم، في عقولنا فقط، كوننا نحن (القساة) فنحن من يغيب لدهر عن زيارة المخيم وأهله.. هذا كل شيء.

للمخيم ذاكرة حيّة تحرسه وتحميه، ذاكرة مستقلة تماما عن وعي المدينة المحاذيه له

رمضان الفائت، وبعد عشر سنوات بلا دعوة، كنتُ محاطا بتلال عالية من "سحاحير" الخضار، أحتمي بمظلّات السوق الكبير، بوابته تفضي نحو ذاكرة لم تزل خضراء يانعة، ودون تفكير وجدتني أخترق الحارات الضيقة والقديمة، أذرع الطرقات على غير هدى.
المحيّر أن الطريق لم تختلط ككل مرّة، كانت وكأنها مرسومة بإحساس نقي لم يفارقها يوما.

كنتُ أمام ذلك البيت، الذي تغيرت من حوله الدنيا بعد أن خلا من سكانه فجأة وظلّ هو على حاله. كان مهجورا وبلا سور، ومحاطا بسياج معدني من الناحية الأمامية، ولم يكن ثمة دالية. البيوت الملاصقة تبدّلت من حوله كثيرا، كذلك الأرصفة. النواصي القريبة مبلطة، ومزودة بأحواض لزراعة أشجار الطريق، اللافتات الإعلانية البارزة تعترض الطريق وتنتشر بعشوائية على جباه المحال التجارية الصغيرة.

عدتُ من حيث أتيت وفي نيتي العودة إليه كل عام، في رمضان. وكنتُ أتساءل.. من منّا أكثر قسوة، أنا الذي ارتسم المكان في ذهني بدروبه الضيقة كوشم أزلي، أم صديقي الذي اختفى تماما ولم يعد ينتمي لذلك المكان؟

 

      

*ناصر الريماوي: كاتب فلسطيني من قرية بيت ريما- ومقيم حالياً في الأردن.