ترجمة الحدث
يتناول الباحث الإسرائيلي هليل كوهين في مقاله "الأرض، الذاكرة، والهوية" قضية اللاجئين الفلسطينيين الداخليين في الأراضي المحتلة 1948، موضحًا أنهم يشكلون شريحة فريدة من الفلسطينيين الذين نزحوا عن قراهم خلال نكبة عام 1948، لكنهم بقوا داخل حدود "الدولة الجديدة". ويشير كوهين إلى أن هؤلاء اللاجئين يعيشون حالة من الاغتراب المتواصل، حيث يخوضون صراعًا يوميًا للحفاظ على هويتهم وذاكرة قراهم الأصلية في ظل محاولات إسرائيلية ممنهجة لطمس هذه الهوية.
وبحسب كوهين، فإن جذور الأزمة تعود إلى لحظة النكبة، حين اضطر آلاف الفلسطينيين إلى الفرار من قراهم خوفًا من العمليات العسكرية، ليجدوا أنفسهم لاحقًا في مواجهة سياسات التهجير والمطاردة الإسرائيلية حتى في أماكن اللجوء المؤقتة. ويوضح أن نحو 25 ألف لاجئ فقط تمكنوا من البقاء داخل الأراضي المحتلة 1948، معظمهم في منطقة الجليل، مما أسس لواقع سياسي واجتماعي متوتر بين هؤلاء اللاجئين و"الدولة الجديدة".
ويُبرز كوهين في تحليله أن سلطات الاحتلال رفضت السماح بعودة اللاجئين الداخليين لعدة اعتبارات رئيسية، من ضمنها الحاجة إلى توسيع الاستيطان اليهودي عبر استخدام الأراضي المصادرة، والاعتبارات الأمنية التي رأت في الفلسطينيين خطرًا كامنا، إضافة إلى الرغبة في معاقبة من اعتبرتهم القيادة الإسرائيلية خصومًا في الحرب عبر حرمانهم من العودة إلى ديارهم.
ووفقًا لكوهين، اعتمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على بنية قانونية دقيقة لضمان مصادرة الأراضي، حيث لعب قانون "أملاك الغائبين" الصادر عام 1950 دورًا مركزيًا في تعريف اللاجئين الداخليين كـ"غائبين" قانونيًا، رغم وجودهم الفعلي داخل البلاد، مما أتاح للدولة مصادرة أراضيهم رسميًا. كما يشير إلى أن قانون الاستحواذ على الأراضي لعام 1952 عزز هذه السياسات عبر شرعنة المصادرة مع عرض تعويضات شكلية تهدف إلى إنهاء أي مطالبة مستقبلية بالحقوق الأصلية.
وفيما يتعلق بتطور العلاقة بين اللاجئين الداخليين ودولة الاحتلال، يرسم كوهين صورة ثلاثية المراحل؛ ففي الفترة بين 1948 و1952، شهدت العلاقة موجة تهجير إضافية ومصادرة مكثفة، تبعتها مرحلة من التهدئة القانونية والتعويضات الرمزية بين 1952 و1958، قبل أن تصل إلى مرحلة قبول اللاجئين بالاستقرار القسري في القرى الجديدة مع تلاشي آمال العودة بحلول عام 1967.
أما على صعيد طمس الهوية، فيوضح كوهين أن سلطات الاحتلال لم تكتف بمصادرة الأراضي بل عملت على استهداف ذاكرة اللاجئين نفسها. ومن ضمن الوسائل التي اعتمدتها "الدولة الجديدة"، بحسب كوهين، منع اللاجئين من زيارة قراهم الأصلية، وشطب أسماء القرى المهجرة من الخرائط، وإعادة تسجيل اللاجئين في قرى أخرى، بالإضافة إلى تغييب النكبة من المناهج التعليمية الرسمية، وكل ذلك بهدف تفكيك الرابط العاطفي والتاريخي الذي يجمعهم بقراهم الأصلية.
ويشير كوهين إلى أن محاولات سلطات الاحتلال طمس الهوية الفلسطينية للاجئين الداخليين شهدت انتكاسة نسبية في التسعينيات، إذ ساهمت تحولات سياسية مثل انطلاق عملية السلام، فضلاً عن شعور اللاجئين المستمر بالتهميش الاجتماعي، في إحياء هويتهم الوطنية. ونتج عن هذه الصحوة إنشاء عشرات اللجان المحلية التي أخذت على عاتقها إحياء ذكرى القرى المهجرة، وتنظيم زيارات رمزية وإصدار مؤلفات توثيقية تحولت إلى ما يشبه المتاحف المتنقلة لذاكرة النكبة.
وفي تحليل سياق ارتباط قضية اللاجئين الداخليين بمفاوضات السلام، يرى كوهين أن إعادة النقاش حول الهوية الفلسطينية داخل إسرائيل ترافق مع الآمال التي أثارتها مفاوضات أوسلو، غير أن غياب اللاجئين الداخليين عن جداول الأعمال الرسمية لهذه المفاوضات دفعهم إلى إعادة صياغة مطالبهم ضمن الإطار المدني، عبر المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية بوصفهم مواطنين إسرائيليين وليس فقط لاجئين فلسطينيين.
يوضح كوهين أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) التي اندلعت عام 2000، وما تلاها من مواجهات، عززت المخاوف الإسرائيلية إزاء أي تسوية محتملة مع اللاجئين الداخليين، نظرًا للخطر الذي تخشاه إسرائيل من إعادة فتح ملف حق العودة وتأثيره على الطابع اليهودي للدولة. وعلى الرغم من أن لجان اللاجئين سعت، وفقًا لكوهين، إلى تهدئة المخاوف عبر حصر مطالبها في استعادة الأراضي غير المستغلة، إلا أن الموقف الإسرائيلي الرسمي ظلّ على حاله من الرفض والتصلب.
ويؤكد كوهين في مقاله أن اللاجئين الداخليين حققوا إنجازين أساسيين: أولًا، إعادة بناء هويتهم الجمعية كلاجئين يحملون ذاكرة قراهم الأصلية كرافعة للنضال الوطني؛ وثانيًا، إعادة صياغة نضالهم ضمن الإطار القانوني الإسرائيلي عبر المطالبة بالعدالة والمساواة، مستفيدين من موقعهم القانوني كمواطنين. إلا أن كوهين ينبه إلى أن الجمود السياسي في القضية الفلسطينية وتفاقم الأزمة بين دولة الاحتلال ومواطنيها العرب يجعلان من حل قضيتهم مهمة شاقة لا تتحقق إلا في إطار مصالحة تاريخية شاملة تعترف بالمأساة وتعيد الحقوق.
"الاستعمار الاستيطاني ومهجّرو المدن الفلسطينية"
في مقالتها ""الاستعمار الاستيطاني ومهجّرو المدن الفلسطينية" تسلط هبة يزبك الضوء على فئة مهملة ومغيّبة إلى حدّ بعيد من الأدبيات التاريخية والاجتماعية، وهي فئة "مهجّري المدن الفلسطينيين" الذين بقوا داخل فلسطين بعد نكبة عام 1948. تركز المقالة على المدن التي تعرّضت لتهجير واسع لكن دون أن يُمحى وجود بعض سكّانها الفلسطينيين، لتطرح بذلك أسئلة جوهرية حول الاستمرارية، والمحو، والهوية في ظل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
تحدد المقالة الفجوة المعرفية في الدراسات الفلسطينية التي ركّزت على القرى والريف، مُهمِلة بذلك المدن التي كانت في قلب المشروع الصهيوني للتهجير والتطهير العرقي. وتشير إلى أن الأدبيات السائدة تميل إلى ريفنة الفلسطينيين، وهو ما ينعكس في التهميش المنهجي لقصص المدن التي تحوّلت إلى "مدن مهجّرة"، بل تم التعامل معها كقرى كبيرة بسبب بعدها الجغرافي عن المراكز الحضرية الساحلية مثل حيفا ويافا.
في هذا السياق، تقترح المقالة اعتماد التاريخ الشفوي كمنهج بديل لتجاوز نقص المصادر المكتوبة، الذي نتج عن التهجير الجماعي ونهب الأرشيف الفلسطيني. وهي تدمج هذا التاريخ الشفوي بمقاربات ما بعد استعمارية مثل "دراسات المهمّشين" و"كتابة التاريخ من الأسفل"، لتعيد الاعتبار لأصوات الأفراد الذين عايشوا التهجير وبقوا في وطنهم في ظروف قسرية.
تعتمد المقالة على المفهوم التحليلي لـ"الاستعمار الاستيطاني" باعتباره بنية قائمة على المحو والإحلال وليس فقط السيطرة. وهنا تستدعي تصور باتريك وولف، الذي يرى في المحو هدفًا بنيويًا للمستعمر الاستيطاني. وضمن هذا الإطار، تدرج التهجير الداخلي – أي تهجير الفلسطينيين من مدنهم إلى مدن أخرى داخل الخط الأخضر أو حتى إلى أطراف مدنهم – كمظهر من مظاهر هذا المحو.
وتقترح المقالة مسارين من التهجير: "التهجير داخل المدينة" و"التهجير في ما بين المدن". وهما نمطان لم يُوليا اهتمامًا كافيًا في دراسات النكبة، رغم مركزيتهما في حياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين واجهوا الإقصاء عن حيّزهم الحضري من دون أن يغادروا الوطن.
وترى المقالة أنها تسهم في كسر الصمت التاريخي عبر استحضار روايات شفوية مباشرة لمهجّرين من مدن فلسطينية مثل اللد، يافا، صفد، الرملة وبيسان. تتنوع هذه الشهادات بين تجارب البقاء في الأحياء التي تحوّلت إلى "غيتوهات"، والعيش في منازل فارغة هجّر منها أصحابها، ومشاهدة مجازر وحشية، مثل مجزرة جامع دهمش في اللد، أو المشاركة القسرية في دفن الجثث أو حتى حرقها.
تكشف هذه الروايات عن التجربة المركّبة للنجاة والبقاء تحت الاحتلال، والتي اقترنت بـ"عقاب مزدوج": من جهة، تحوّل من نجا من التهجير إلى شاهد على الدمار، ومن جهة أخرى، تم استخدامه ضمن النظام الاستعماري الجديد كعامل أو ساكن في منازل لاجئين، في عملية صامتة من إعادة تشكيل الفضاء والهوية.
تسلط المقالة الضوء على البعد الجندري في تجربة التهجير، حيث تبيّن كيف أن أصوات النساء كانت أكثر تهميشًا، رغم دورهن المحوري في صون الأسر والحفاظ على البقاء. تُبرز المقابلات في المقالة أدوار نساء قمن بإنقاذ أسرهن من الموت، أو شهدن المجازر، أو عشن معاناة الصمت الطويل عن ما جرى. وهي بذلك تشكل تقاطعًا مع دراسات نسوية عربية وفلسطينية سعت إلى تفكيك الخطاب الذكوري المهيمن في رواية النكبة.
تقدّم المقالة تأريخًا لفترة "الغيتوهات" في اللد ويافا، وهي مرحلة مهملة في التأريخ الفلسطيني. يتضح أن هذه الأحياء المحاصرة كانت وسيلة لفرض السيطرة المكانية على الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجرّد "عناصر مرئية" تخضع للتفتيش والعقاب الدائم، كما يصف فوكو في نظريته عن "المرئية كفخ".
وقد تم ربط هذه الحالة ليس فقط بالقمع المباشر، بل أيضًا بفرض "الصمت الجماعي" عن المجازر والآلام، خوفًا من العقاب أو النبذ، أو حتى نتيجة للصدمة المستمرة. وهنا تقدم الكاتبة فهمًا عميقًا للنكبة كحدث مستمرّ، لا كواقعة انتهت، وهو ما يجعل من "المهجرين داخل الوطن" جماعة في حالة قمع دائمة.
تعود المقالة لتربط التجربة اليومية لمهجري المدن بمفهوم "استعمار الحيّز"، الذي يعكس كيف تمت مصادرة المدن ثقافيًا وديمغرافيًا. من خلال شهادات مثل تلك التي يقدّمها "يوسف" من يافا، تتجلى المدينة ككائن مهاجر تم محوه رمزيًا وفعليًا. هذا المحو لا يشمل فقط البنية المادية، بل أيضًا الذاكرة والهوية، وهو ما يجعل من التوثيق الشفوي أداة مقاومة معرفية ضد الاستعمار.
وتؤكد المقالة كذلك على مركزية الذاكرة واللغة في مقاومة مشاريع المحو الصهيوني، وتقدّم في الوقت ذاته نقدًا ضمنيًا للمجال الأكاديمي الفلسطيني الذي كرّس إقصاء المدن وتجربة سكانها من السرد الوطني الجمعي، وتشير إلى أنها محاولة لرسم خريطة النكبة من زوايا لم يُلتفت إليها كثيرًا، وتضع أمامنا مسؤولية توسيع الذاكرة الجمعية لتشمل كل من عاش النكبة – بأشكالها المتعددة – ولم يتمكّن من روايتها من قبل.