الجمعة  01 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بشر غير أسوياء| بقلم: رولا سرحان

2025-07-31 09:00:14 AM
بشر غير أسوياء| بقلم: رولا سرحان
رولا سرحان

مما لا شك فيه أن الإبادة المرتكبة في غزة اليوم قد جعلت منا بشرا غير أسوياء، ليس لأننا نفتقر إلى ممارسة الحياة الطبيعية، والتي لا يقصد بها التوقف عن أداء المهام اليومية، أو الواجبات، أو استمرارية الادعاء بأنه ليس بالإمكان الخروج لتناول فنجان قهوة، لكن الحياة الطبيعية تعني في معناها التبسيطي أنه بإمكان الفلسطيني أن يستيقظ على يوم عادي جدا، وطبيعي جدا، يشبه أي يوما آخر في أي مكان آخر في هذا العالم دون الحاجة إلى التوقف الحتمي أمام استيعاب كل هذا الموت. أن تستوعب كل هذا الموت الذي لا يماثله أي موت آخر، وتحمله الأخبار بكثافته الآتية من بقعة تعاني التقتيل الممنهج، والتجويع الفتاك، وتتعرض لعمليات عسكرية تعيده إلى قراءة التاريخ التوراتي كي يحظى بمعرفة معانيها وكيف ستسلط عليه موتها، فيتماهى مع قصص التقتيل التي تفطر القلوب، وتفتح أمام كل قصة احتمالية أن تكون حكاية لشعب بأكمله، إنما هو الموت الذي يخرج البشر عن سويتهم. وإذا كان ذلك فعل الموت كمبتدأ، فإن فعله يمتد أبعد وأعمق في تأثيره على سويتنا، فنحن اليوم لم نعد بشرا أسوياء ليس لأن الموت فقط هو الحاضر المقيم بيننا خلال ساعات اليوم، والذي يعيشه الفلسطيني مترقبا لنبأ تلو النبأ، بل وإنما لأنه موت محمول على نية الإبادة التي حولتنا إلى بشر لا يعرفون إلا معنى الكراهية والحقد والعدائية، إنها المشاعر التي تحول الإنسان الذي يُراقب الموت من بعيد، أو يُحاصره الموت من قريب، إلى كائن قادر على التوحش وقابل للتخلي عن إنسانيته كي يكون وحشا ينتقم من الوحش الذي لا يتوانى عن تقتيله يوميا، فتنعدم سويته.

واليوم، بينما يشهد العالم كيف تنهك الأجساد الصغيرة وهي تحمل وعاء الطعام مصطفة أمام المساعدات الغذائية، ويشهد في المشافي تصفية أجساد أصغر من آخر رمق للحياة جوعا، وكيف يتم اصطياد الناس الجوعى في مشاهد تحط من إنسانيتهم وكرامتهم، ندرك كيف تصر آلة القتل على استخراج أقصى ما يمكن من تلك الأجساد من الكراهية، وتستخلص من دواخلنا أقصىى استعداد للعداوة. تلك الكراهية التي يضاف إليها استخلاص المعرفة المحضة والخالصة عن ذواتنا والآخرين، وفي ظل عصر لا يمكن أن يوصف بأنه عصر التسامح والقيم الإنسانية الكونية المشتركة، بل هو عصر إقصائي بامتياز، عصر الكراهية، حيث لا يؤمن فيه صانعو السياسات والأقوياء إلا بالحلول التصفوية، ليكون هذا العصر عصر المحو، وعصر الإبادة، عصر تخليق الكراهية والعداوة. وبينما لا يستقر هذا العصر إلا بسيادة نوع من البشر المتفوقين يتحول فيه الأفراد الذين يعيقون هذا التفوق إلى بشر غير ضرورين، بل إلى متاع قابل للتصفية ومن ثم التغييب التام، ودون شعور بالمسؤولية تجاههم، والتي قد تعطيهم أدنى حق من الاعتراف بهم.

وإن كان السياق المتناقض لما بين الضفة وقطاع غزة ينتج خطابا فلسطينيا مبتورا عما يمكن أن نفهم منه سويتنا الإنسانية، حيث خطاب السلام ما زال محمولا على ألسنة القيادات الفلسطينية والعربية فيما يشبه الرابط الحتمي بين الفلسطيني وعدوه، إلا أن واقع الحال مما نراه اليوم من مقتلة إنما هو، وفي حقيقة الأمر، يدمر كل رابط بين الفلسطيني وعدوه على أي أساس ممكن ومحتمل، وليظل الرابط الوحيد الذي لا يمكن تدميره هو رابط العداوة المتشكل حاليا، الذي تتراكب فيه آلة الحرب التي تقوم بالقتل المباشر، مع آلة التجويع التي تقوم بالقتل البطيء، مع منهجية القتل المعنوي، والذي يستهدف إبادة الأمل في نفوس الناس من خلال تصعيد إيقاع الألم الذي لا يمكن دفنه ولا يمكن الشفاء منه، بل ويظل حيا يغذي العداوة والكراهية.

إن المخزون النفسي الهائل والكبير من الكراهية الذي ولدته الإبادة في غزة، لا يمكن علاجها لا بمؤتمرات السلام في الأمم المتحدة، ولا بتحويل غزة إلى ريفيرا الشرق الأوسط. فماذا ستعنيه المؤتمرات والقمم لأم فقدت أبناءها التسعة واستقبلتهم في المشفى بينما كانت تطبب أطفالا آخرين؛ وما الذي يعنيه السلام لطفل فقد أطرافه وسيعيش بإعاقة دائمة بقية حياته، وهل يمكن له في يوم ما أن يستقبل الجندي الذي أطلق القذيفة عليه فيتشارك معه طاولة في مطعم لتناول السمك على شاطئ غزة؟ إن تفاصيل القتل تجعل من أفق السلام والحياة الطبيعية بعيدين جدا، بل وتجعل من فكرة تقبل الآخر- العدو، فكرة ساذجة وسطحية عند التفكير بها من وجهة نظر من يُعانون ويتعذبون. بل إن أولئك هم من يمكنهم، وفقط، أن يحددوا شكل العلاقة الممكنة مع من يريد إبادتهم ومحوهم وجعلهم غير قابلين للحياة، بل ويحاول إقناعهم بأنهم بشر زائدون عن الحاجة، حيث لا يمكن أن يكون هناك ما يمكن مشاركته، أو جمعه معا، أو المسامحة عليه.

 لقد استخرجت آلة الإبادة منا أقصى ما يمكنها من معرفة عن عدونا وذواتنا، نحن اليوم بشر على قيد الكراهية، نستيقظ كارهين لأنفسنا ولعجزنا ولقياداتنا، وكارهين قبلها جميعا لعدونا!