في سياق حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، تتجلّى حقيقة مركزية في طبيعة الحروب المعاصرة، وهي أن المواجهة لم تعد مقتصرة على الميدان العسكري، بل امتدّت إلى ميدان السرديات والمعاني، حيث تدور معركة ضارية على وعي الرأي العام العالمي. وبينما تسعى إسرائيل، عبر أدواتها المؤسسية والإعلامية، إلى ترسيخ روايتها الرسمية التي تُقدّم نفسها فيها كضحية، تفرض السردية الفلسطينية حضورها المتصاعد بقوة، وإن كان ذلك من خارج الأطر المؤسسية التقليدية. لقد وجدت هذه السردية جذورها في الواقع الإنساني المرير، وتسلّحت بالبث الحي للمجازر، فباتت تكتسب زخمًا عالميًا متناميًا، يصعب على أي خطاب منظم أن يتجاهله أو يلغيه.
تمثّل الإجراءات القمعية الرقمية التي تنتهجها إسرائيل، من المراقبة والانقطاعات المتكررة لشبكات الإنترنت والاتصالات، والاستهداف المنهجي للصحفيين والعاملين في مجال الإعلام، إلى فرض رقابة عسكرية صارمة على التغطية الدولية القادمة من غزة، اعترافًا ضمنيًا بفشلها في تثبيت روايتها الرسمية.
فهذه الممارسات لا تُخفي فقط حقيقة العجز عن السيطرة على الصورة، بل تؤكد أن ثمّة تفوق للسردية الفلسطينية في فضح الكوارث الإنسانية غير المسبوقة التي يشهدها القطاع، وتوثيقها بأدوات بسيطة وفعالة رغم محاولات العزل والتعتيم.
لقد بنت إسرائيل روايتها على أساس الدفاع عن النفس (الضحية) ومحاربة "الإرهاب"، وأن ما يجري في غزة هو رد على هجوم السابع من أكتوبر. وقد سعت إلى تصوير الفلسطينيين كمعتدين والمقاومة الفلسطينية كتهديد وجودي ووحوش بشرية، متجاهلة السياق الأوسع للاستعمار، والحصار، والقمع المستمر للفلسطينيين منذ عقود طويلة.
في المقابل، تنبثق السردية الفلسطينية، رغم محدودية أدواتها وعشوائية بنيتها وضعف إمكانياتها التقنية والمؤسسية، من عمق الواقع الكارثي الذي يعيشه قطاع غزة. فهي تُجسّد حجم الدمار الشامل الذي طال البنية التحتية، والانهيار المتسارع لمنظومات الغذاء والرعاية الصحية، إضافة إلى التهجير القسري لمئات الآلاف من المدنيين من منازلهم. وتعتمد هذه السردية بدرجة كبيرة على "صحافة المواطن"، من خلال شهادات حية، وصور، ومقاطع مصورة توثقها الهواتف المحمولة من قلب الميدان، متحدية الحصار والقصف والانقطاع المتكرر للاتصالات. ورغم بساطتها، فقد نجحت هذه الرواية الإنسانية الصادقة في اختراق جدران التعتيم، ووجدت صدى واسعًا في الرأي العام العالمي، مما ساهم في فضح الانتهاكات الإسرائيلية وكسر الهيمنة على المشهد الإعلامي.
تكتيكات التعتيم الإسرائيلية: شهادة على فشل السردية
في مواجهة هذا المد المتصاعد من التضامن الدولي مع الرواية الفلسطينية، لجأت إسرائيل إلى تكتيكات متكررة لتقييد تدفق المعلومات، مما يعكس قلقها العميق من قوة السردية الفلسطينية.
قطع الإنترنت: عزل غزة عن وعي العالم
أولى هذه التكتيكات وأكثرها تأثيرًا هي القطع المتكرر لخدمات الإنترنت والاتصالات عن قطاع غزة. تهدف هذه الخطوة إلى عزل القطاع عن العالم الخارجي بشكل كامل، ومنع الفلسطينيين من توثيق ونشر ما يتعرضون له من قصف ودمار وفظائع، وبالتالي الحد من قدرة السردية الفلسطينية على الوصول إلى الجمهور العالمي. ففي كل مرة يتم فيها قطع الإنترنت، يزداد القلق من ارتكاب المزيد من الجرائم بعيدًا عن الأعين، مما يؤكد أن هذا الإجراء ليس مجرد مشكلة فنية، بل هو أداة حرب معلوماتية استراتيجية.
استهداف الصحفيين: محاولة يائسة لإسكات الحقيقة
اعتمدت إسرائيل سياسة الاستهداف الممنهج للصحفيين الفلسطينيين والأجانب على حدّ سواء، كجزء من استراتيجيتها لعزل قطاع غزة عن العالم الخارجي. فمنذ اندلاع الحرب، استُشهد ما يقارب 231 صحفيًا في غزة، فيما أصيب العديد بجروح بالغة، وتعرّض آخرون للاعتقال أو الإخفاء القسري. ويعكس هذا التصعيد غير المسبوق نية إسرائيلية واضحة لإسكات الأصوات الإعلامية التي تنقل حقيقة ما يجري على الأرض، خاصة أولئك الذين يشكلون شهودًا مباشرين على الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين.
إن استهداف الصحفيين لا يقتصر على القتل أو الإصابة الجسدية، بل يشمل أيضًا المضايقات المستمرة، والملاحقة الأمنية، والتهديدات المباشرة، وعمليات الاعتقال الممنهج، في محاولة لخلق بيئة من الخوف والردع تمنعهم من أداء مهامهم المهنية، وتدفعهم نحو الصمت القسري. ويتكرر هذا النمط من القمع كذلك في الضفة الغربية، حيث تتبع إسرائيل سياسة منظمة لتفريغ المشهد الإعلامي الفلسطيني من أدواته وشخوصه.
الرقابة العسكرية: تشويه الواقع وتضليل الرأي العام العالمي
ولعل أخطر هذه التكتيكات وأكثرها انتهاكًا هو اشتراط الرقابة العسكرية الإسرائيلية الصارمة على الصحفيين العاملين مع الوكالات الدولية، هذا الشرط يعني أن أي مادة إخبارية تتعلق بالعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، يجب أن تخضع لموافقة الجيش الإسرائيلي قبل نشرها، هذا الإجراء هو انتهاك فاضح لمبادئ حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة، إنه يضع الصحفيين تحت رحمة الرقابة العسكرية، ويحولهم إلى أدوات لنشر الرواية الإسرائيلية الرسمية، بدلاً من أن يكونوا مصادر مستقلة وموضوعية للحقيقة.
هذا الشرط هو محاولة واضحة لتشويه الواقع والتلاعب بالرأي العام العالمي. فكيف يمكن للوكالات الإخبارية الدولية أن تدعي الاستقلالية والموضوعية، بينما تخضع محتوياتها للرقابة من قبل أحد أطراف الصراع بشكل مباشر؟ هذه الرقابة تفتح الباب على مصراعيه أمام تضليل منهجي، حيث يتم حذف أو تعديل أي معلومات لا تتوافق مع الخطاب الرسمي الإسرائيلي، مما يؤدي إلى تقديم صورة غير مكتملة أو مشوهة للأحداث.
إن هذه الإجراءات مجتمعة ترسم صورة واضحة لا لبس فيها: إسرائيل تدرك أن سرديتها التقليدية لم تعد تقنع العالم، وأن الرواية الفلسطينية، المدعومة بالواقع المأساوي على الأرض، تكتسب قوة دفع هائلة لا يمكن إيقافها.
لقد نجحت السردية الفلسطينية في مواطن معينة في تسليط الضوء على المعاناة الإنسانية المروعة، وتحدي السردية الإسرائيلية التي تحاول تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وحقوقهم. لم يعد من الممكن تجاهل أصوات الضحايا والناجين، ولم تعد الرواية الإسرائيلية أحادية الجانب قادرة على الصمود أمام سيل المعلومات والصور التي تتدفق من غزة، لتشهد على جرائم لم يعد بالإمكان إخفاؤها.
إن التحولات الواضحة في الرأي العام العالمي تظهر بوضوح هذا التغيير الجذري. لم تعد السردية الإسرائيلية تحظى بنفس القدر من التصديق والدعم الذي كانت تتمتع به في السابق. أعداد متزايدة من النشطاء، والمؤسسات الحقوقية، وحتى الحكومات حول العالم، بدأت تعبر عن قلقها الشديد إزاء الابادة في غزة، وتدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة.
في الختام، يمكن القول إن معركة السرديات تمثّل بعدًا جوهريًا لا يمكن فصله عن مجريات الإبادة، وهي مسؤولية جماعية وفردية في آن، يتحمّلها الفلسطينيون حيثما وُجدوا. وبينما تمضي إسرائيل في توظيف أدواتها الدعائية من فنانين وشخصيات عامة وسياسيين ومؤسسات إعلامية لمحاولة فرض روايتها وتشويه الواقع، تواصل السردية الفلسطينية ترسيخ حضورها استنادًا إلى شرعية المعاناة وتاريخ من التضحيات العميقة لشعب يواجه الإبادة بكل أشكالها.
إن السردية الفلسطينية ليست مجرّد توثيق للأحداث أو عرض للصور، بل هي فعل مقاومة متجذّر في عمق الوعي الجمعي، ومواجهة مفتوحة ضد محاولات المحو والإقصاء من الذاكرة. بالتالي، إن التمسك بسرد الحكاية، بالتوثيق، وبإيصال الصوت والصورة من قلب الألم، هو تمسّك بالوجود ذاته، وإصرار على أن يُروى التاريخ بلسان أبنائه، لا بلغة المستعمِر. في السياق الفلسطيني، تصبح الرواية درعًا للذاكرة، وخط دفاع أخير في مواجهة الإنكار، ومقاومة فاعلة لا تقل أثرًا عن المواجهة في الميدان.