الحدث العربي الدولي
كشفت صحيفة نيويورك تايمز في تحقيق استقصائي موسّع، أن فكرة تفويض شركات خاصة بمهمة توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، جاءت في الأصل من ضباط احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي ورجال أعمال إسرائيليين، سعياً لتجاوز وكالات الأمم المتحدة التي يعتبرها الاحتلال "معادية". ووفقاً للتحقيق، فإن هؤلاء الضباط خدموا في "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي الفلسطينية"، وهي وحدة عسكرية تُعنى بالشؤون المدنية، وكانوا يعملون تحت قيادة الضابط رومان غوفمان، الذي رُقي لاحقاً ليصبح السكرتير العسكري لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وبينما كانت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تتولى الإشراف على إيصال المساعدات منذ بداية الحرب، تعمل "إسرائيل" حالياً على نقل هذه المسؤولية إلى شركات خاصة حديثة النشأة وغامضة التمويل، ما أثار تحذيرات أممية من أن الخطة "تنطوي على مخاطر جسيمة".
في قلب هذه الخطة يبرز ما يُعرف بـ"صندوق المساعدات الإنسانية لغزة" (GHF)، الذي تديره جهات أميركية، أبرزها الجندي السابق في مشاة البحرية الأميركية جاك وود. ويتعاون الصندوق مع شركة أمن خاصة تُدعى "سيف ريتش سوليوشنز" يرأسها فيليب رايلي، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) شارك سابقاً في تدريب ميليشيات يمينية في نيكاراغوا، وشارك في عمليات عسكرية في أفغانستان.
وتوضح الصحيفة أن رايلي سيكون مسؤولاً ميدانياً عن تنفيذ الخطة داخل غزة، عبر شركته الأمنية، بينما يتولى صندوق "GHF" عملية التمويل. ورغم ادعاء القائمين على الخطة بأنها مستقلة عن الحكومة الإسرائيلية، إلا أن كافة المعطيات تكشف عن جذورها العميقة داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية، إذ نشأت فكرتها في كانون الأول/ديسمبر 2023، خلال لقاء نظمه ما يُعرف بـ"منتدى مكفيه إسرائيل"، وهو تجمع غير رسمي يضم ضباط احتياط ورجال أعمال إسرائيليين، اجتمعوا لأول مرة قرب تل أبيب لصياغة خطة بديلة لتوزيع المساعدات تتجاوز الأمم المتحدة، وتستعين بشركات خاصة أجنبية.
ويستند المشروع إلى هدف مُعلن يتمثل في "إضعاف حركة حماس" عبر التحكم في توزيع الغذاء ومنع وصوله إلى السوق السوداء أو إلى كوادر الحركة، وتوجيهه إلى مناطق خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، لكن مسؤولين في الأمم المتحدة حذّروا من أن هذه الخطة قد تُقيد إيصال المساعدات وتعرّض حياة المدنيين للخطر، عبر إجبارهم على التنقل في مناطق عمليات عسكرية للبحث عن الغذاء. كما حذّروا من أن نقل مراكز التوزيع إلى الجنوب قد يشكل ذريعة إضافية لترسيخ التهجير القسري لسكان شمال القطاع.
التحقيق يكشف أيضاً عن أسماء شخصيات محورية تقف خلف هذا المشروع، أبرزهم يوتام كوهين، وهو مستشار استراتيجي ونجل جنرال احتياط في جيش الاحتلال، وقد عمل مساعداً لغوفمان في وحدة "تنسيق أعمال الحكومة". وإلى جانبه، برز اسم ليران تانكمان، رجل أعمال في قطاع التكنولوجيا، ومايكل أيزنبرغ، أحد كبار المستثمرين في صناديق رأس المال المغامر الإسرائيلية. هؤلاء الثلاثة شاركوا في ورشة مغلقة نُظّمت داخل مدرسة "مكفيه إسرائيل"، وشكلوا النواة الفكرية للمخطط.
وكان كوهين قد نشر مقالاً في مجلة عسكرية إسرائيلية في حزيران/يونيو الماضي، دعا فيه بشكل صريح إلى تفكيك ما أسماه "منظومة سيطرة حماس" من خلال التعامل المباشر مع سكان غزة وتولي "إسرائيل" بنفسها إدارة المساعدات، وخلق واقع جديد على الأرض يتجاوز الحلول السياسية. واعتبر كوهين أن استمرار الاعتماد على المنظمات الدولية يمنح حماس فرصة الهيمنة على توزيع المساعدات، مشدداً على ضرورة "خصخصة" العملية وتفويضها إلى جهات أجنبية.
ورغم ورود عروض من شركات أمنية أخرى، إلا أن فيليب رايلي كان الخيار المفضل نظراً لخلفيته الأمنية واتصالاته مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وقد بدأ فعلاً بالتواصل مع مسؤولين إسرائيليين مطلع عام 2024، وأجرى اجتماعات مع أيزنبرغ وتانكمان. وتشير الصحيفة إلى أن شركة "سيف ريتش" بدأت نشاطها داخل غزة في كانون الثاني/يناير الماضي، خلال فترة التهدئة المؤقتة، حيث تولّت عمليات تفتيش السيارات الفلسطينية بحثاً عن أسلحة.
وبحسب الوثائق الرسمية، أنشأ رايلي شركتين: الأولى هي "GHF" التي تتولى التمويل، والثانية هي "سيف ريتش سوليوشنز" المسؤولة عن التنفيذ الأمني. ويزعم جاك وود أن الصندوق لا يهدف إلى الربح، وسيقوم بتغطية نفقات الحماية، لكن عدم الإفصاح عن الممولين الأساسيين أثار شكوكاً واسعة بشأن الأجندة الحقيقية الكامنة خلف هذا المشروع.