السبت  02 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل فقدنا أثر قصتنا؟... بين السرد المتكرر والتأثير الغائب| بقلم: أ. لما عواد

2025-08-02 12:07:59 PM
هل فقدنا أثر قصتنا؟... بين السرد المتكرر والتأثير الغائب| بقلم: أ. لما عواد
لما عواد

تُروى القصة الفلسطينية يوميًا، في الأخبار، وعلى المنصات، وفي المؤتمرات، وفي شهادات الناجين والشهود. ورغم هذا السرد المتواصل، يلوح في أذهاننا سؤال: هل ما زالت قصتنا تُحرّك العالم؟ أم أنها أصبحت مجرد رواية معتادة؟. أطرح هذه الكلمات لا من موقع المتخصص، ولا الناقده، بل من زاوية التأمل، هذا المقال هو دعوة لإعادة التفكير بالسرد... لا بالقضية.

منذ نكبة عام 1948، مرورًا بالحصار، والتهجير، والاستيطان، والمجازر بحق شعبنا، النكبة، اللجوء، المقاومة، الأسر، الاستيطان، القصف، المقاومة، الألم، الصمود، الصمت الدولي، وفي كل مره تتكرر و تبدأ الدائرة من جديد ... لم تتوقف فلسطين عن رواية الحكاية.  لكن، في عالم إعلامي محكوم بالزمن والانطباع الأول، يطرح دائما سؤال في عالم التسويق الإعلامي: هل تفقد  القصة سحرها بالتكرار؟ وهنا لا نقصد "قصة" فردية، بل السردية الفلسطينية نفسها:  هل ما زال هذا السرد قادرًا على الإقناع؟ أم أنه أصبح مجرد ضجيج مألوف لا يحرّك ساكنًا؟.

القصة لا تموت... بل قد يُميت أثرها السرد الرديء.

القصة لا تفقد سحرها … بل تفقده إذا سُردت بطريقه سيئة، فالمشكلة ليست في الحكاية، بل في كيفية تقديمها وسردها، القصة لا تفقد تأثيرها بالتكرار، إنما إذا بقيت تُروى من الزاوية نفسها، وباللغة نفسها، وبنفس السياق.

ما يُضعف السرد الفلسطيني ليس كثرة الحكايات، بل ضيق الزاوية.

زاويتك تغيّر روايتك. فالقصه لا تضعف... إذا غيّرت الزاوية لسردها، فالقصة من نفس الزاوية يُميت أثرها، فبدلًا من أن نقول: "غزة تُقصف من جديد", لنتحدث عن أم تغني لطفلها تحت الركام لينام بسلام.
وبدل أن نكرر: "اللاجئون يطالبون بحق العودة", لنسرد صوت جدة تهُجّر للمرة الثالثة وتحمل مفتاح بيتها منذ سبعين عامًا، ما زالت تقول: "سنرجع يومًا".

لنستبدل أرشيف النكبة بقصص إنسانية من داخل الخيمة.
لنكشف تفاصيل الحياة من الداخل، لا من فوق المنابر الرسمية.

نفس القصة، لكن من منظور مختلف تصنع فرقًا كبيرًا.

لكل قصة رسالة.
ما الذي نريده من حكايتنا؟ إثارة الغضب؟ استنهاض الوعي؟ كشف الظلم؟ إعلاء الكرامة؟ لا ينبغي أن تُروى المأساة فقط لإثارة الحزن، بل لتحريك الضمير، وتوجيه الموقف، وفتح باب الفعل. السرد الفلسطيني يجب أن يكون دقيق الرسالة، لا عشوائيًا، لا حياديًا، ولا ملتبسًا.

لا تسرد بعشوائية.

فالسرد ....  بناء سياسي وأخلاقي.

الرسالة أوّلًا وأخيراً، ماذا نريد أن تقول؟ كل قصة تروى بلا رسالة تتحول إلى مأساة بلا معنى، هل تحكي القصة لتُظهر الظلم؟ أم لتُبرز الكرامة؟ أم لتُدين موقف؟ أم لتستنهض فعلًا سياسيًا أو دوليًا؟ فالنحدد رسالتنا بدقة.

فليس المطلوب أن نروي لتجميل الواقع أو تجميل دورنا، بل أن نروي ببناء، فالسرد ... فلنبتعد عن بدأ القصة بالمأساة وإنهاءها فجأة بالبطولة، إذا قلنا: "هدموا بيتنا ، فبنينا غيره!"  فأنت تختصر القصة بطريقة تُربك المتلقي، القصة تحتاج تمهيد، تصعيد، لحظة ذروة، ثم أثر.  السرد المقاوِم لا يعني الاستجداء، بل التدرّج في كشف الحقائق واتخاذ موقف واضح ومستند إلى مبادئ أخلاقية في قضايانا.

لا حياد مع الجلاد.

وضوح الموقف هو أحد شروط التأثير، لا تكن غامضًا: من هو البطل؟ من هو الجلاد؟ من هو الصامت؟ من هو المتواطئ؟ من الضحية؟ من يخذل؟ من يصمد؟ لا يجوز أن نترك المتلقي يتساءل: هل هذا مقاوم أم عنيف؟ هل هذا محتل أم وسيط؟ .... لا تجعل جمهورنا وقراءنا ومناصري قضيتنا يتساءل: وضوحنا قوتنا.
فالوضوح في الرواية يصنع التأثير... والالتباس يضعف الحق.

 

فلنفكك الخرافة ولا نعيد إنتاجها.

الوضوح في الموقف يصنع التأثير، لا تسرد خرافة … إلا إذا كنت تقصد تفكيكها إذا اخترت أن تسرد "الرواية الصهيونية"، أو "خطاب التطبيع"، أو "حجج المستعمر"، افعل ذلك لتفضحها لا لتجمّلها، إياك/ي أن تعيد إنتاج خرافاتهم بحسن نية.... فلنكن واضحيين، نعرّيها لا نُبررها، القصة المقاومة لا تروّج لخطاب العدو، حتى ولو تحت غطاء "الحياد" أو الموضوعية "الرأي الآخر".
فالحياد مع الجلاد..... خيانة للضحية.

 

إبقاء البريق.

القصة الفلسطينية لا تفقد سحرها... لكنها تحتاج من يُحسن سردها وروايتها،  تُقتل حين تُروى بلا حبكة، بلا وضوح، بلا جرأة، فالسرد أداة ...   فإما أن نحرّك بها الضمير العالمي، أو نكرّس بها صورة الضحية الصامتة، فلسطين لا تحتاج إلى من يكرر الحكاية، بل إلى من يُجيد سرد حكايتها.
 
دعونا نستكمل نهج الذين أوصلوا الصوت... وما زالوا.
بصوت أوضح، أعمق، وأكثر جرأة.

نمضي على خطى من كتبوا وصرخوا وغنّوا... فأوصلوا الرسالة إلى العالم، لا عبر البكاء، بل عبر فنّ السرد، وشرف الكلمة، وكرامة الصوت.

نسير على أثر غسان كنفاني، نستمد الإلهام من محمود درويش، ونسمع في الخلفية صوت فرقة العاشقين، وننهل من إرث إميل حبيبي ونتأمل في نصوص سحر خليفة ،نستقرئ سميح القاسم، ونستشهد بأعمال ميّ إلكُرْد ومحمد الخطيب وعلاء حليحل، ممن جسدوا القضية في شوارع القدس، وفي منشور بصري، وفي سخرية كاشفة لا تهادن.

ولا ننسى إبداعات الجيل الجديد من الشعراء والفنانين والكتاب، ريم البنّا، وتميم البرغوثي، الذي أعاد الشعر السياسي إلى المنابر والميادين، وإبراهيم نصر الله، برواياته الممتدة من غزة إلى القدس، وبلال خوري، ديما أمين، مجد كيّال، آية خلف، عمار حسن، وآلاف الآخرين ممن حملوا الرسالة بأمانة،...

أدواتهم تنوعت ،  من الرواية إلى القصيدة، من الغناء إلى السينما، من الإعلام الرقمي إلى المسرح ، لكن جمعهم الولاء لقضية عادلة، ووعي بأن القصة لا تموت... لكنها تحتاج إلى من يُحسن سردها.

قد تتغير الأدوات، لكن الرسالة باقية،

أن نروي فلسطين لا كضحية فقط، بل كصاحبة حق، وكرامة، وصوت لا يُشوّه.

لنبني سردًا يحيا، يُورّث، ويُحرّك التاريخ كما فعلوا.

فالقصة لا تموت… لكن الراوي قد يُميت أثرها.

وفلسطين ليست منتجًا فقد صلاحيته، بل ذخيرة أخلاقية وإنسانية لا تنفذ، لكنها تحتاج إلى من يُجيد السرد، لا من يكرر الأسطوانة، رجاءاً .... رجاءاً، فالنحسن استخدام أدواتنا، ولا نجعل قضيتنا العادلة ضحية لسرد مرتبك أو محايدأو ممل.

فالقصه لا تموت... لكن الراوي قد يُميت أثرها.
وصوتنا لا يتكرر... بل يتجدّد في كل مرة نرويه بصدق.