في هذه الأيام يكون التطبيع القديم الذي بدأه الرئيس الراحل أنور السادات بزيارته للقدس، قد دخل عامه الثامن والخمسين، ويكون التطبيع المستجد الذي بدأته الإمارات والبحرين والمغرب والسودان قد بلغ عامه الخامس.
إذاً نحن حيال مشروعٍ عمره زاد عن نصف قرن، وإذا كانت نتيجته الفعلية هي إلغاء الحروب النظامية بين جيوش الدول، إلا أنه لم يمنع نشوب حروبٍ متفرقة أوصلت الشرق الأوسط إلى ما هو عليه الآن، حيث الجبهات المتعددة والتوتر الدائم في العلاقات مع إسرائيل، سواء من جانب المطبعين أو غير المطبعين.
مع تجربة التطبيع الأولى (مصر)، وصلت الأمور الآن إلى حالةٍ يمكن وصفها بالحرب الباردة، الواقفة على شفا حربٍ ساخنة تجري على أرضٍ لصيقةٍ بمصر، ما أنتج قلقاً دائماً من عصفها، ذلك أن جدار الحدود الذي بُني لصد مشروع التهجير إلى سيناء، لم يعد كافياً لدرء الاحتمال، ما استدعى حشد قواتٍ إضافيةٍ مصرية على الحدود، تحسباً من مضاعفات احتلال غزة بالكامل، والبدء في تنفيذ المشروع الأمريكي الإسرائيلي المشترك بإخلاء غزة من ساكنيها، لتحويلها من وطنٍ له أهل إلى مشروع استثماري، اصطلح على تسميته بريفييرا الشرق، وأول اشتراطات تنفيذه أن تكون غزة خالية من أهلها.
مصر التي أنجزت معاهدة سلامٍ مع إسرائيل، ترى بأم عينها حقيقة أن معاهدة السلام وصمود اتفاقياتها لعقودٍ طويلة، لم توفر لمصر الدولة والنظام والمجتمع ما أمّلته من وراء التطبيع، الذي إن صمدت وثائقه ومظاهره، إلا أن ما لم يتحقق ولو للحظةٍ واحدة، الطمأنينة من أن إسرائيل لم تعد تشكّل تهديداً لمصر، وإسرائيل لا تخفي قلقها من جيش مصر وتعاظمه عدداً وعدّة.
بعد التطبيع الأول جرت تجربة مدريد أوسلو، التي تحوّلت وفي مدىً زمنيٍ قصير إلى عكس ما كان مؤمّلاً منها، إذ بدل تطبيعٍ محتمل راود الفلسطينيين والعالم، فها نحن نرى أفظع انهيارٍ للمحاولة، بتحوّلها من مشروع سلامٍ تاريخيٍ إلى حالة حربٍ شاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليست غزة وحدها هي ساحتها، بل الضفة كذلك.
ومثلما كانت الحرب على غزة ذات عصفٍ خطرٍ على مصر، فالحرب على الضفة وما يبيت لها يصيب الأردن بالجملة والتفصيل، بحيث لا يفصل بين الجغرافيتين الطبيعية والبشرية سوى خيطٍ رفيعٍ يكاد لا يُرى.
بعد التطبيع المصري وبعض التطبيع الفلسطيني، وقع التطبيع الأردني، ونشأ وضعٌ جديدٌ في العلاقات بين المملكة الهاشمية وإسرائيل، ودون التدقيق فيما إذا كان فك الارتباط بين الضفتين كان صائباً أم خاطئاً، إلا أن الواقع الذي نشأ بعد التطبيع الأردني وفشل أو انهيار أوسلو وما بُني عليها، وضع الأردن أمام ذات الخطر الذي تواجهه مصر، ففي الأردن ورغم التطبيع وبعض العلاقات التجارية وغيرها، يتنامى قلقٌ مشروعٌ ومبرر، من أن الخطر الإسرائيلي على الدولة الأردنية لم يزل، بل ازداد بفعل ما يحدث في الضفة، التي هي بالنسبة للأردن ليست بلداً مجاوراً وكياناً مستقلاً بل هي وسكّانها المتداخلين مجتمعياً مع الأردن أحد مكوّنات المملكة.
وحتى فك الارتباط الذي أملته تقديراتٌ ربما لم تكن في محلها، لم يغيّر من الارتباط شيئاً بل زاده عمقاً وتأثيراً حتى في الحياة اليومية للناس على ضفتي النهر.
التطبيع القديم هو الأهم وهو الذي كان الأكثر تأثيراً في السياسات والمصائر، أمّا التطبيع المستجد فقد تبين رغم ما علّقت عليه أمريكا وإسرائيل من آمال، بأنه أقل تأثيراً إمّا لسبب البعد الجغرافي، أو لسبب عدم انخراط أطرافه مباشرةً في الحروب والتسويات.
المشترك بين التطبيع القديم والمستجد هو افتقارهما لحاضنةٍ شعبيةٍ ترى فيه ضرورةً تستحق المجازفة والرهان.
كما أنه وبمقياس الربح والخسارة يظهر ميلاناً فادحاً لجهة الخسارة، ليس فقط بفعل عدم اكتماله فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وإنما بفعل تضرر الدول المطبعة منه، فما يزال في إسرائيل من يجاهر بأن حل القضية الفلسطينية يتم على حساب الأردن، ويرى الأمر كذلك بشأن غزة مع مصر.
التطور المؤثر في أمر التطبيع القديم والمستجد جاء من خلال التعامل السعودي معه المؤيد عربياً وعالمياً، ذلك من خلال وضعه في سياقٍ منطقيٍ وعمليٍ صحيح، أساسه أن التطبيع ينجح إذا ما ارتبط بحل القضية الأم في الشرق الأوسط، وتخصيصاً بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، ولكنه يفشل حتماً إذا ما تجنب ذلك.