الثلاثاء  02 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كيف تحول إسرائيل كل قيمة إنسانية إلى هدف؟| بقلم: ياسر مناع

2025-09-02 09:03:38 AM
كيف تحول إسرائيل كل قيمة إنسانية إلى هدف؟| بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

عقب اغتيال عدد من الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ومن بينهم الشهيد أنس الشريف، كشف الصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام عبر صفحته في منصة X عن إنشاء وحدة جديدة عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023. تحمل هذه الوحدة اسم "خلية إضفاء الشرعية"، وتتمثل وظيفتها الأساسية في جمع المعلومات التي يمكن أن تُستخدم لإدانة الأفراد والمؤسسات المستهدفة من قبل إسرائيل.

ويهدف هذا النشاط، الذي يجمع بين البعد الاستخباراتي والبروباغندا الإعلامية، إلى إضفاء المشروعية على الحرب الإسرائيلية وتقديمها بوصفها مبررة، فضلًا عن محاولة تحسين صورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي.

هذا يفتح الباب أمام سؤال أعمق وأكثر خطورة: ما هي الغاية الحقيقية من ذلك؟ وما الذي تفعله إسرائيل لفصل الفلسطينيين عن العالم؟ ينطلق هذا المقال من فرضية مفادها أن إسرائيل لا تكتفي فقط بتبرير أفعالها، بل تعمل بشكل ممنهج على تشويه وتدمير بعض القيم والرموز التي تحظى باحترام عالمي وإنساني.

من خلال هذه العملية، تُجرد القضية الفلسطينية من سياقها الإنساني والقيمي المشترك، وتُقدم العمليات العسكرية الإسرائيلية على أنها استهداف "مشروع" لأهداف عسكرية، وليس انتهاكًا للقوانين الدولية أو الإنسانية. هذا التشويه الممنهج هو جزء لا يتجزأ من حرب الإبادة التي تُمارس في غزة.

المستشفيات من ملاذ الأمان إلى هدف عسكري

تُعد المستشفيات والمراكز الطبية من الأماكن الأكثر حماية في القانون الدولي، حيث تنص اتفاقيات جنيف على عدم استهدافها واعتبارها مناطق آمنة للمرضى والجرحى والطواقم الطبية. ورغم ذلك، عملت إسرائيل، عبر حملة دعائية مكثفة، على تقديم المستشفيات الفلسطينية على أنها معاقل ومراكز قيادة للمقاومة ومخازن للأسلحة.

ومن الأدلة على ذلك ما حدث في مجمع الشفاء الطبي، وهو أكبر مستشفى في قطاع غزة. بعد حصاره واقتحامه، نشر الجيش الإسرائيلي فيديوهات وصورًا لبعض الأسلحة المزعومة داخل المستشفى، محاولًا إثبات أن المكان كان مقرًا عسكريًا.

الأمر ذاته تكرر في مستشفى ناصر في خان يونس، حيث تم تدمير أجزاء كبيرة منه، وفي مستشفى المعمداني الذي تعرض لقصف مباشر أدى إلى مجزرة مروعة. في كل هذه الحالات، لم تعد المستشفيات تُرى على أنها مؤسسات إنسانية يجب حمايتها، بل أصبحت، في المخيال الإسرائيلي، بنية تحتية للمقاومة هذا التشويه الرمزي يهدف إلى نزع الصفة الإنسانية عن هذه الأماكن، مما يبرر تدميرها ويُضعف من التضامن العالمي مع ضحاياها.

الصحفيون .. تجريم الحقيقة وإسكات الشهود

الصحافة هي ركيزة أساسية لأي مجتمع حر، والصحفيون هم شهود العصر الذين ينقلون الحقيقة إلى العالم. في غزة، تُعد الصحافة الفلسطينية هي المصدر الرئيسي للمعلومات من الميدان، لكنها دفعت ثمنًا باهظًا، حيث استشهد منهم أكثر من 244 صحفيًا وصحفية حتى كتابة هذا المقال.

تأتي هنا مهمة "خلية إضفاء الشرعية" لإضفاء الشرعية على قتلهم. فبعد اغتيال الصحفي أنس الشريف، سارعت إسرائيل إلى نشر ادعاءات تزعم علاقته بالجناح العسكرية لحركة حماس. ومن قبله اسماعيل الغول وحسام شبات والكثير من الصحفيين.

بالتالي، لم يعد الصحفي مجرد شاهد على الأحداث، بل أصبح "هدفًا شرعيًا" يمكن القضاء عليه بحجة انتمائه إلى جهة معادية. هذا التكتيك لا يهدف فقط إلى إسكات الحقيقة وإخفاء الجرائم، بل يعمل أيضًا على تشويه صورة الصحفي في المخيال العالمي، مما يُفقد مهنة الصحافة قيمتها كرمز للحقيقة والموضوعية.

استهداف العقول المفكرة

يُعتبر الأطباء والمثقفون قادة مجتمعاتهم ورموزًا للعلم والمعرفة. لكن إسرائيل لم تستثنهم من استهدافها، وقتلت أطباء بارزين في غزة. بدلًا من أن تُدان على قتلها للمسعفين والكوادر الطبية، حاولت إسرائيل أن تربطهم بشكل ما بـ"الإرهاب"، مما يشوه دورهم الإنساني ويهدف إلى تجريدهم من حصانتهم المهنية.

الأمر ذاته ينطبق على أساتذة الجامعات والمثقفين، الذين يمثلون الفكر والتنوير. من الأمثلة البارزة على ذلك اغتيال الأكاديمي رفعت العرعير، حيث تم استهدافه بغارة جوية دمرت منزله. بشكل عام تعمل إسرائيل على نزع صفة المثقف عن المستهدف. هذا التكتيك يهدف إلى تدمير النخب الفلسطينية، ليس فقط جسديًا، بل رمزيًا، مما يمنع العالم من التضامن معهم كأفراد يمثلون قيمًا عالمية.

حتى الطلاب، الذين يمثلون مستقبل أي أمة، لم يكونوا بمنأى عن الاستهداف. فالمدارس والجامعات قُصفت، وقُتل آلاف الطلاب. إن استهدافهم ليس مجرد جريمة ضد الإنسانية، بل هو هجوم على قيمة التعليم والمستقبل ككل. من خلال تشويه صورة هؤلاء الطلاب وتقديمهم على أنهم جزء من "بيئة الإرهاب"، تعمل إسرائيل على فصلهم عن فئة الطلاب العالمية، وتُفقد حياتهم قيمة "المستقبل" التي يمثلونها.

بيوت العبادة ... المقبرة

لقد كانت المساجد والكنائس في غزة أكثر من مجرد مبانٍ، كانت شهودًا على قرون من التسامح، ورمزًا للهوية الفلسطينية. لكن إسرائيل لم تكتفِ بتدمير مئات منها، بل عملت على تشويهها رمزيًا. فبدلًا من أن تُرى على أنها بيوت لله ومراكز تراث، قُدمت على أنها معاقل للمقاومة. هذه الرواية المضللة تهدف إلى تبرير تدنيس المقدس، وجعل تدميرها يبدو مشروعًا في عيون العالم، مما يفصل فلسطين عن أي تعاطف قائم على الإيمان أو الاحترام للتراث.

كذلك، لم تسلم المقابر الفلسطينية من آلة الابادة الإسرائيلية، التي لم تكتفِ بنبش القبور، بل محت معالمها تمامًا.وفي الوقت نفسه، استُهدفت المواقع الأثرية التي تمثل بصمات التاريخ على هذه الأرض، محاولةً لمحو أي دليل مادي على وجود الشعب الفلسطيني عبر العصور. إن هذا الاستهداف ليس مجرد عنف مادي، بل هو محاولة بائسة لقطع صلة الفلسطينيين بأسلافهم وأرضهم، وإفقاد العالم قدرته على رؤية عمق جذورهم التاريخية.

ولم يسلم المتطوعون والمنظمات الإنسانية من الاستهداف، كما حدث مع عمال الإغاثة في منظمة المطبخ المركزي العالمي، كما استُخدم التجويع سلاحًا، وجرى قصف قوافل المساعدات.

ختامًا، فإن عمل "خلية إضفاء الشرعية" لا يقتصر على كونه مجرّد وسيلة لتلميع صورة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، بل يُمثّل جزءًا بنيويًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تفكيك القيمة الإنسانية للرموز الفلسطينية وتشويه صورتها أمام العالم.

وبهذا المعنى، تعمل إسرائيل على تعزز فكرة "الإنسان الفلسطيني المستباح"، أي الإنسان الذي يُجرَّد من حصانته الأخلاقية والقانونية، ليُقدَّم أمام العالم باعتباره كائنًا فاقدًا لحق الحماية والاعتراف، وهو ما يسهّل شرعنة العنف الممارَس ضده، ماديًا ورمزيًا على حد سواء.