ترجمة الحدث
صباح السبت، 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نفّذت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، عملية عسكرية مباغتة انطلقت من قطاع غزة، تمكّن خلالها مقاتلوها من اختراق السياج الفاصل والدخول إلى مستوطنات "غلاف غزة". خلال ساعات، قُتل نحو 1,200 مستوطن إسرائيلي، ووُصف الحدث في الخطاب الإسرائيلي بأنه "الأكثر فتكًا منذ المحرقة"، فيما أُسر قرابة 250 مستوطن وجندي ونُقلوا إلى غزة. كشفت التطورات حجم الإخفاق البنيوي في منظومتي الأمن والاستخبارات لدى دولة الاحتلال، ودَفعت إلى حرب شاملة وطويلة على القطاع بكلفة بشرية ومادية باهظة. وبعد الصدمة الأولى، تحوّل ما جرى إلى أزمة ثقة عميقة بين الجمهور والمؤسسات الحاكمة في "إسرائيل"، واهتزّ العقد الضمني الذي يربط المجتمع الإسرائيلي بدولته.
منذ تأسيسها، قدّمت دولة الاحتلال نفسها باعتبارها "الملاذ الآمن" لليهود، وارتكزت شرعيتها الداخلية على وعد أساسي: حماية حياة المستوطنين وضمان أمنهم. الهجوم المباغت الذي شنّته المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نسف هذه الركيزة من أساسها. للمرة الأولى منذ عقود طويلة، وجد الإسرائيليون أنفسهم في قلب مستوطناتهم ومنازلهم دون حماية، وتحوّل الأمن – الذي كان يُقدَّم بوصفه الضمان الأسمى للدولة – إلى وهم مكشوف. كثير من مستوطني "غلاف غزة" رووا أنهم تُركوا لساعات طويلة دون تدخل عسكري. انعكست مشاعر التخلّي والخيانة على الوعي العام، وتحوّل الغضب إلى أزمة ثقة غير مسبوقة في قدرة الدولة على الوفاء بعقدها الاجتماعي مع جمهورها. باتت القناعة بأن الجيش والحكومة يضمنان الأمان موضع شك، واتُهمت القيادة السياسية والعسكرية بالتقصير والتراخي والانشغال بأجندات ثانوية.
إحدى النتائج المباشرة والقابلة للقياس لأحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر تمثّلت في انهيار ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمؤسسات الرسمية، ففي "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية 2023" الصادر عن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، تبيّن أن 23% فقط من الإسرائيليين يثقون بالحكومة، انخفاضًا من 28% قبل الحرب. أما الثقة بالكنيست فانخفضت إلى 19% فقط مقارنةً بـ24% سابقًا. وتكررت الصورة نفسها في مؤسسات أخرى: الأحزاب السياسية تراجعت ثقة الجمهور بها إلى 15% فقط..
استطلاع آخر كشف أن 72.5% من الإسرائيليين يعتقدون أن بنيامين نتنياهو يتحمّل المسؤولية المباشرة عن فشل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأن عليه الاستقالة. حتى بين مؤيدي الحكومة، أقرّ نحو نصف المستطلعين بضرورة إنهاء ولايته بعد الحرب. كما أظهر معطى آخر أن 39% من الجمهور يرون نتنياهو المسؤول الأول عن التقصير، مقابل 18% فقط نسبوا المسؤولية لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون حليفا، و10% لرئيس الأركان هرتسي هليفي، و7% لرئيس الشاباك رونين بار. أي أن الغالبية وجّهت أصابع الاتهام نحو القيادة السياسية أولًا.
ورغم بقاء بعض الثقة بالجيش، لم يتجاهل الجمهور فشله في منع الهجمة. فقد بادر قادة عسكريون وأمنيون إلى تحمّل المسؤولية علنًا: رئيس الشاباك رونين بار صرّح مباشرة بعد الهجمة بأن المسؤولية تقع عليه شخصيًا، واللواء حليفا أعلن تحمّله الكامل للفشل وقدّم استقالته بعد نصف عام، فيما أقرّ رئيس الأركان هليفي بأن "صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر كان فشلًا مروّعًا للجيش تحت قيادتي". هذه الخطوات – التي تراوحت بين الاعتراف العلني وتحمل المسؤولية وصولًا إلى الاستقالة – أسهمت في تعزيز صورة المؤسسة العسكرية كجهاز يستخلص العِبر ويعمل على التصحيح. في المقابل، غياب خطوات مماثلة من المستوى السياسي عمّق الفجوة بين الجمهور وقيادته السياسية، إلى حدّ الحديث عن شرخ حقيقي.
وكان متوقعًا – وفق الأعراف التقليدية في دولة الاحتلال – أن تُقام لجنة تحقيق رسمية تفحص بعمق إخفاقات المستويين العسكري والسياسي معًا على غرار لجنة "أغرانات" بعد هزيمة 1973. لكن ما حدث أظهر شرخًا إضافيًا في علاقة جيش الاحتلال بمؤسسات الدولة: فبينما بادر الجيش إلى فتح تحقيقات داخلية صارمة، امتنعت حكومة نتنياهو عن تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، بل ورفضت الدعوات الدولية والمحلية إلى ذلك.
وبحسب تقارير عبرية فقد "عارضت" حكومة الاحتلال أي جهد لإقامة لجنة تحقيق رسمية قد تُحمّلها المسؤولية المباشرة عن التقصير الأمني. بل إن نتنياهو أقدم في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 – بعد انتهاء المرحلة الرئيسية من العدوان – على إقالة وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت، في خطوة فسّرها كثيرون كمحاولة لتحميله إخفاقات تلك المرحلة. غير أن نتنياهو اضطر تحت ضغط الشارع إلى إبقائه في الحكومة عبر حقيبة بديلة.
في المقابل، أظهر كبار الضباط العسكريين سلوكًا مختلفًا: فقد أعلن رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي استقالته الطوعية مرفقة بإقراره بفشله في "حماية المستوطنين"، كما أُفيد بأن رئيسي سلاحي الجو والبحرية درسا الاستقالة، فيما قرر قائد المنطقة الجنوبية اللواء يارون فنكلمان التنحي على خلفية الهجوم. لكن حتى نهاية 2024، لم يبدُ أن نتنياهو أو وزراءه مستعدون لتحمّل أي مسؤولية مباشرة، ما عزّز قناعة الشارع الإسرائيلي بأن الطبقة السياسية "تتخلى" عن المسؤولية وتترك جيش الاحتلال يدفع الثمن وحده.
على المدى البعيد، ينعكس غياب التحقيقات الرسمية على العلاقة البنيوية بين الجيش والدولة. فمن المفترض أن يعمل جيش الاحتلال في إطار سياسي مدني يراقبه ويوجّه عمله، لكن عندما يُخفق المستوى السياسي ويرفض استخلاص العبر، تتقوض الرقابة المدنية وتفقد الثقة المتبادلة معناها. يشعر ضباط وعاملون في الأجهزة الأمنية بأنهم قُدّموا "كبش فداء"، بينما يخرج السياسيون "نظيفي الأيدي". ويفقد الجمهور الثقة ليس فقط في أشخاص محددين، بل في المنظومة السياسية برمّتها وقدرتها على ممارسة رقابة عادلة.
تؤدي هذه الدينامية إلى نتيجة ثقيلة: العلاقة بين جيش الاحتلال والدولة كمؤسسة رسمية تعيش أزمة ثقة عميقة. الدولة نفسها تعجز عن تجسيد مبدأ "المسؤولية الحكومية" تجاه المستوطنين عبر آليات تحقيق ومحاسبة، فيما يجد الجيش نفسه مضطرًا لتحمّل عبء الإصلاح والتهدئة منفردًا.
واليوم تتعالى الأصوات – بما في ذلك من عائلات قتلى وأسرى الهجوم – المطالِبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية تفضي إلى توصيات إصلاحية جوهرية. غير أن استمرار المماطلة يعني أن "التملص من المسؤولية" بات أمرًا بديهيًا في ثقافة الحكم داخل دولة الاحتلال، وهو ما يمنع استخلاص العبر المؤسسية، ويفاقم تفكك التلاحم الداخلي وتآكل ثقة الجمهور بالمنظومة السياسية–الأمنية معًا.