السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كلما دق الكوز بالجرة عامر بدران

2014-09-23 12:34:26 AM
كلما دق الكوز بالجرة
عامر بدران
صورة ارشيفية

 تفسير أحلام

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كان الحاكم العسكري لمنطقة رام الله يدعى موشي، أي "موسى" بالعربية. لكنه كان يفضل على ما يبدو استخدام الصيغة الإنجليزية لاسمه للتعريف عن نفسه، وهي "موريس". إذن موريس كان الحاكم العسكري لمنطقة رام الله. جاء موريس، ذهب موريس، سيستقيل موريس، وهكذا.. وموريس هذا ذكي بالضرورة، وإلا لما قام بتغيير الصيغة العبرية لاسمه إلى الصيغة الإنجليزية. فموشي صيغة سافرة لاسم يهودي، ستقفز في ذهنك حال سماعها صورة العدو التقليدي الذي يسعى لإذلالك في أفضل الأحوال، أما موريس، فهي صيغة أكثر تحضراً وأكثر نعومة، وبالتالي، فهذا الاسم غير مخيف "للأولاد المشاغبين" من جيلنا في تلك الأثناء.

وفي بداية الثمانينيات أيضاً، كانت المدارس الفلسطينية هي بؤرة الاحتجاجات والمظاهرات ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. تبدأ المظاهرة هكذا: يصطف الطلاب في طابور الصباح، ويكون خمسة إلى عشرة طلاب من الصفوف العليا قد قرروا تعطيل الدوام المدرسي لهذا اليوم، فيبدأون بالضرب على شنطهم المدرسية بأيديهم في حركة موحدة، إلى أن ينضم لهم معظم طلاب المدرسة. ثم يذهب الجميع لرشق الجيش الإسرائيلي بالحجارة على الشارع القريب. أو على الأقل إغلاق طريق يؤدي إلى مستوطنة ما.

في يوم من الأيام، خرج طلاب إحدى مدارس بلدة بيرزيت القريبة من رام الله، في مظاهرة، وتوجهوا لإغلاق الشارع المؤدي إلى مستوطنة "حلميش"، فاعترضتهم قوة عسكرية وأعادتهم إلى ساحة المدرسة وحاصرتهم هناك. كان الجيش يمطرهم بقنابل الغاز، وهم يمطرونه بالحجارة. واستمر الوضع على هذه الحال مدة ساعة من الزمن إلى أن يئس الطرفان من هذا الروتين الذي لا غلبة فيه لطرف على آخر. هنا اتصل ضابط القوة العسكرية بالقائد العسكري موريس، والذي حضر إلى المدرسة ووقف أمام الجنود ووجه حديثة عبر سماعة يدوية إلى الطلاب، مبتدئاً بـ : يا أبنائي!!

نعم، لقد ناداهم بهذه الكلمة. فهو ذكي ويريد اللعب بمشاعرهم. ولا بد أن هؤلاء الأعداء الصغار سيفهمون لغة العقل حين تعجز لغة القوة .

نحن لسنا أبناءك يا ابن الزنا. رد طالب من بين الجموع. ثم علا الصراخ والصفير. لكن موريس الذي يتحلى برباطة الجأش أيضاً، تجاهل الشتيمة وأكمل، و لكن بلهجة فيها بعض الغضب هذه المرة: "هل تريدون تحرير فلسطين بهذه الطريقة؟ هل إغلاق شارع سيحرر لكم بلادكم؟ عودوا إلى مقاعدكم الدراسية، فهذا أجدى لكم". هنا بدأ الطلاب بالضحك وإطلاق العبارات الساخرة والمليئة بالكلام البذيء بحق هذا الذي جاء مدعياً الرغبة في نصحهم.

هنا فقد موريس أعصابه وتحول فجأة إلى موشي. لقد غضب موشي من كثرة الشتائم واستخفاف الطلاب به وبقوته. والغاضب يقول ما يؤمن به دون "تزويقات" أو تجميل. صرخ موشي بالطلاب: "هل يعرف أحدكم يا كلاب متى تأسست دولة إسرائيل؟"

صمت الطلاب فجأة مستغربين هذا السؤال الخارج عن سياق الأحداث. صمتوا فهدأ الضجيج. وفجأة تبرع بالإجابة أحدهم: عام 1948. ضحك موشي وقال: إجابة خاطئة يا بني. لقد تحول موشي إلى موريس مجدداً عندما عجز عدوه الصغير. 1967 صاح طالب آخر. فقال موريس: هذه إجابة خاطئة أيضاً. مع وعد بلفور، أجاب طالب ثالث. مع إعلان هرتسل، قال طالب رابع. وموريس يضحك ويردد: خطأ، خطأ.

ثم أردف موريس بلهجة الواثق المنتصر: "لقد تأسست دولة إسرائيل عام 1925. نعم، في هذا العام أنشأت الحركة الصهيونية الجامعة العبرية في القدس ومعهد التخنيون في حيفا. لا تستغربوا يا أبنائي، فهذا هو التاريخ الفعلي لقيام دولة إسرائيل. لهذا فإن أردتم تحرير فلسطين فما عليكم إلا العودة إلى مقاعدكم الدراسية".

انتهت القصة. انتهت القصة التي مر عليها أكثر من ثلاثين عاماً. هذا الزمن الطويل لم يكن قادراً على إثبات وجهة نظر موريس ولا وجهة نظر الطلاب. فنحن كما يقال لنا دائماً، من أكثر الشعوب تعليماً، لكننا لم نحرر فلسطين. ونحن من أكثر الشعوب رشقاً للحجارة في وجوه أعدائنا، لكننا لم نحرر فلسطين أيضاً.

هل تكمن أخطاؤنا في نوعية التعليم؟ هل أن عدونا شرس أكثر مما نتصور؟ هل الله والقدر يصطفان إلى جانب أعدائنا؟ أسئلة كثيرة لا أملك لها أية إجابات. كما أنها، والحق يقال، لا تعنيني كثيراً. فالقصة بأكملها لا تشير إلى المشكلة الحقيقية، والحل لا يمكن استخراجه منها أبداً. فالتعقيدات السياسية أكبر وأضخم من أن يتم اختزالها بهكذا قصة أو هكذا أسئلة ساذجة. لكنني أتساءل دائماً عن مغزى إخراج طلاب المدارس من صفوفهم في غزة، من أجل الهتاف لحماس وتجديد شرعيتها. أو إخراجهم من صفوفهم في الضفة من أجل الهتاف للسلطة وتجديد شرعيتها. يتم ذلك عادة كلما دق الكوز بالجرة. وللأسف، ليس حين يدق الكوز والجرة معاً بإسرائيل.