الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إلى أفنان/ بقلم: محمود الطارقي - تونس

2017-03-22 04:13:14 PM
إلى أفنان/ بقلم: محمود الطارقي - تونس
محمود الطارقي

 

من يريد أن يتحدث عن حياته يبدأ من الصفر عادةً، وأمّا أنا فكل حياتي صفر ولذلك لا أعلم من أين سأبدأ بالضبط. كل ما أعرفه أني لم أفكر في الكتابة يوماً ثم كتبت وندمت على ما فعلت، و لكن الجيد في الأمر أني صرت أعرف حدود ندمي الآن فأنا نادمٌ من أول سطر كتبته الى آخر سطر.

 

ومؤخراً جمعت كل نصوصي وأرسلتها إلى دمشق لتُطبع في نسخ متواضعة وتوزع بالمجان. وأظنُّ أنها ستكون مجموعتي الأولى والأخيرة وقد سميتها "إلى أفنان"، وأفنان هي فتاةٌ دمشقيّة جميلة اسمها هو أجمل قصيدةٍ وسط قصائدي، وقد تكون القصيدة التي لن أتمكن من كتابتها أبداً. من حامة الجريد إلى أفنان، أفنان وحامة الجريد يبدوان لي اسمين مضيئين يتوسطهما "محمود طارقي" هذا الاسم الباهت كبقعة زيت يغطيها الغبار، ولا أعرف لماذا بهت سريعاً! ربما لأن جدي استخدمه قبلي ثم مات. جدي الذي لم أزر قبره منذ سنتين مع أنّ المقبرة تبعد عني خمسة أمتار، ولذلك لا أستطيع أن أستبعدها كلما تحدثت عن نفسي. المقبرة التي درست فيها دائماً برفقة براد شاي وأحياناً أنام دون أن أشعر ولا أعرف لماذا كنت أستيقظ كل مرة، وحتى الرسالة التي استقبلت فيها خبر نجاحي في امتحان الباكالوريا وصلتني وأنا في المقبرة .

 

الآن تخرجت ولا أعرف كم درست من سنة فقد رسبت عدّة مرات لأني كنت أفضّل النوم تحت ظل شجرة على الدخول إلى المعهد، و مازلت أعتبر أن حصّة العربية عند شفيق طارقي هي الأفضل من بين كل الحصص وتستحق أن أضحي بساعات نومي تحت ظل الشجرة من أجلها. وربما بإمكاني أن أعرّف الجمال الآن بأنه كل شيء يستحق أن نضحّي بنومنا من أجله، أقول هذا لأنّي صرت نائماً على الدوام حتى في يقظتي، وأكتب لأصل إلى نهاية النص نادماً لأن الندم هو الشيء الوحيد الذي يجعلني أحسُّ بأني ما زلت حيّاً. أنا الحيّ الوحيد أقول هذا عندما أجلس وحيداً في المقبرة ، وخارج أسوارها أحس أنني الميّت الوحيد. ولم أعد أريد استخدام عبارة أنا حيّ لأنني استبدلتها بعبارة تعبّر عني بشكل أفضل : "أنا عالق". وربما جميعنا عالقون لأننا وسط حياة لم نختر شروطها وملزمون بأن نقبل كل الشروط التي تفرضها علينا، وصرت أعلم الآن بأنّ القانون ضعيف جداً لأنه يحتوي على العديد من الثغرات وأما الشرط فهو القوة الأكبر التي تسيّرنا، الشرط الذي يجعل صخرة تغرق بمجرد أن تلامس سطح الماء لأن الغرق هو طريقتها الوحيدة في السباحة. أنا الآن مستقرٌ في القاع وعالق، ولذلك أرسلت نصوصي كسرب طيورٍ يحلّق من صدري إلى أفنان .

(1 )

بقلبٍ يقدّر الحياة جيداًو يُفرحه خيط صوفٍ أخضر

تلفُّه طفلة فقيرة على إصبعها،لأنها تزوجت الحياة

أكثر من خواتم الذهب في أصابع عاهرات،تزوَّجن الخيانة

أقول :

"أنا مواطن من الدرجة الثالثة وأنتمي إلى العالم الثالث"

هنا،

حيث عقدنا النفسية هي سرعتنا الوحيدة

وأشرعتنا البيضاء تغرق قبل أن تصل...

هنا نحيا ،

ليتدرّب العالم الأول على قتلنا !

فدول الغرب كالجراد، تأكل كل شيء

ولا تترك لنا إلا الأوراق البيضاء

لنكتب عليها "جعنا"

ونرسلها إليهم مع طوابع بريدية

عليها صور الحضارة التي هدموها !

 

والغريب أننا لا نكرههم

لأننا لا نحب أنفسنا !

ومن سلاسلهم التي تحفر معاصمنا

تعلمنا الدرس الأخير :

"كل يد في الجيب،تعني حرية"

نحن الإنسان،

وهذا ما يزعجهم...

نحن النسيان،

وهذا خلودهم الوحيد ...

النسيان الذي يعيش بيننا

وأشبّهه دائماً بحضارة المايا

لأنها أوجدت التدخين

وكل يوم تُباع ملايين علب السجائر

لا يوجد على أي واحدة منها اسم هذه الحضارة...

 

النسيان الذي ابتلع ملايين البشر الذين عاشوا لسبب واحد،ثم ماتوا قبل أن يعرفوه!

وأما نحن فنعيش لسبب واحد،سنموت قبل أن تعرفوه:

"نحيا، لندربكم على قتلنا".

( 2 )

بحثنا عن قوة الله دائماً ،

ولم  ننتبه إلى أنها كانت تحرك خصلة شعر على جبين طفل...

وبحثنا عن ملكه ،

وكان في كل خطوة تمحى

وتفتح الطريق للقادمين...

 

بحثنا ،

وكلما أمسكت أم يد ابنها

وسارا معاً

كنا نعلم أنهما يقوداننا إليه...

 

وعندما نستيقظ في الصباح و تعود أرواحنا إلينا

كنا نعلم أن الشمس التي تشرق كل يوم اسم من أسمائه

والعشية بنفسجته الحزينة

والليل نفسه العميق

وابتساماتنا من جماله

والأشجار التي تثمر تتنفس من جناته...

 

الله كان معنا دائماً

يشرق و لا يغيب

كما تشرق هذه الحكمة في صدري الآن :

" قد أفقدك ،إن حاولت أن أبحث عنك".

( 3 )

هي الأجمل ،

والأكثر شباباً...

ويوم مرّت أمامي مسرعة

كتبت كلمة واحدة

وببطء !

 

والآن ،

مازالت أمامها طريق طويلة

ومسافة ستقطعها إلى كلمتي...

وعندما تدخل في شيخوختها الدافئة

وتجلس لترتاح من التعب ،

لن تفكر أبداً في الشخص الذي مرّت أمامه مسرعةً ذات يوم

فأخرج ورقة و كتب لها "الكرسي".

( 4 )

كل امرأةٍ  تنجب أمومتها ،

وأما الطفل الذي يُمَدَّدُ بجانبها على اللّحاف

فهو مجرد ضريبة تدفعها...

 

الأمومة هي الابنة الوحيدة للأم

وأما نحن،الأبناء، فأفكار

الخالق يرعانا و يُسيّرنا إلى أحضانهن...

والآن ،

كلما طَبع طفل قبلة على خدّ أمه

سنبتسم و نقول :

" لقد كانت إمضاء الله على وجهها".

(5 )

يوجد العديد من الفرص لأصبح أشياء مهمة...

ولكن توجد فرصة واحدة لأكون لا شيء ،

ولا أريد أن أضيعها !

حياتي بسيطة جداً ،

ولا أرغب في إفسادها...

 

نفس الكأس لقهوة الصباح ،و في المساء للشاي...

جيب للمال و للإفلاس

ولأضع فيه يدي و أنا أتسكع ليلاً...

شفرة حلاقة داخل فمي لحروبي الشخصية ،

وعندما أشعر بالسلام أخرجها لأحلق ذقني...

 

لا حزب ، و لا إيديولوجيا ،و لا توجه

وهذا لا يعني أنني محايد

بل أبعد من ذلك ،أنا وحدي...

 

أشكر الله لأنه منحني جسداً رياضياً دون رياضة

وبعض الأمراض المزمنة ،كالشقيقة و الحساسية

وأعترف أن الشكر أصعب من الحب...

 

ولذلك سأشكر الله مرة أخرى على خبز اليوم ،

مع أنه كان أسمر أكثر من اللازم

كوجوه الأفارقة الجائعين...

أشكر جسدي لأنه يقاوم ،

ولا أحب روحي لأنها ستنسحب عندما أضعف

وتتركني ميتاً في أرض لا أعرفها...

أشكر تونس لأنها علمتني في مدارسها

وأهم درس كان "نحن من العالم الثالث"

ثم  تخرّجت و وجدت نفسي في العالم الرابع...

وأشكر أول امرأة تعرّت أمامي

كنت أحبها بصدق

ولكنني لا أملك حتى ثمن الملابس التي نزعتها ...

وأشكرك أنت ،أنت الذي تقرأ هذا النص الآن

وتقول لنفسك :

"علي أن أصبح لا شيء،فهذه فرصتي الوحيدة".