الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الفساد في فلسطين... عدالة عرجاء، قوانين قاصرة، والمواجهة في الثلاجة!!

حيتان مُتخمة وأجساد متصحرة!

2015-02-10 01:03:40 AM
الفساد في فلسطين... عدالة عرجاء، قوانين قاصرة، والمواجهة في الثلاجة!!
صورة ارشيفية

 

رام الله ــ محمود الفطافطة

 
الفساد سليل الهلاك، والعمود الفقري له هو الفقر الذي يؤدي إلى الكفر وأبواب الشرور كلها، بحيث لا توجد آية في القرآن الكريم تتحدث عن الفساد إلا وتليها آية تتطرق إلى الهلاك والعاقبة الكبرى للمفسدين. ويُعتبر الفساد، سيما الفساد المالي منه، أول المظاهر الاقتصادية السلبية التي عالجها الإسلام منذ بداياته، فشن حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال والاستعباد وتطفيف الميزان والغش والاحتكار والسرقة والرشوة والربا، ومن ثم التعدي على المال العام وغير ذلك.
 
هذه الإدانة القاطعة للفساد في الثقافة العربية، الإسلامية لا تنفي أن بعض البُنى الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية العربية التي تتغذى على العصبية والولاءات الاجتماعية الضيقة في غياب مؤسسات المجتمع المدني، وضيق المجال العام وخنق الحريات وخلل الحكم، تشكل بيئة خصبة لانتشار الفساد وتحوله إلى وباء يفتك بالأسس التكوينية الشاملة لواقع المجتمع والحؤول دون تطوره مستقبلاً.
 
حالة ومقياس
وفي حال خصصنا الحديث عن فلسطين فإن المجتمع الفلسطيني يُعاني من آفة الفساد كغيره من مجتمعات العالم، فالسلطة الوطنية الفلسطينية تعاني، ومنذ توليها مقاليد الحكم في العام 1994، من صعوبات في الأداء، ومن معيقات مختلفة، تقف في وجه إرساء قواعد الحكم الصالح. ويرتبط بعض هذه الصعوبات والمعيقات بطبيعة البيئة السياسية التي تحيط بعمل السلطة، بينما يرتبط بعضها الآخر بظروف نشأتها التاريخية، وخبراتها المتواضعة في الحكم، ووجود إشكالات تتعلق بالانتقال من الثورة والمنافي إلى الدولة والوطن.
 
ومن أشكال الفساد في فلسطين التكسب الوظيفي، والرشوة، والمحسوبية، والمحاباة في الأعمال العامة، مما أدى إلى إهدار المال العام، وبالتالي المساهمة في حالات الإفقار وتراجع العدالة الاجتماعية وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقاتٍ كثيرة في المجتمع نتيجة تركز الثروات والسلطات في أيدي فئة الأقلية التي تملك المال والسلطة على حساب فئة الأكثرية وهم عامة الشعب وذلك من خلال سوء توزيع الدخول بشكلٍ غير مشروع.
 
في هذا التقرير سنقوم باستعراض سريع لواقع الفساد في فلسطين مع التركيز على نظرة الجمهور له، وصولاً إلى وضع الآليات الملائمة للخروج من هذه البيئة التي تساهم في تشظي المجتمع والحيلولة دون تقدمه وتطوره؟ بداية نشير إلى ما أظهره أكبر مقياس للفساد على مستوى العالم عام 2013 من أن 85% من الفلسطينيين أفادوا بأهمية وتأثير استخدام العلاقات الشخصية (الواسطة والمحاباة) في الحصول على الخدمات العامة، وأن أكثر المؤسسات عرضة للفساد في فلسطين هي الأحزاب السياسية. ويبين المقياس الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية بالتعاون مع مؤسسة أمان أن 44% من المبحوثين في فلسطين يرون أن مستوى الفساد قد ازداد مقابل 27% منهم يرون أنه انخفض و30% يرون بأنه بقي على حاله. ورأى 48% من المبحوثين بأن هناك تأثير للمصالح الشخصية العليا لبعض الجهات المتنفذة في الحكومة على سير وتصرف الحكومة.
 
ويذكر المقياس: لوُحظ أن فلسطين أقل الدول العربية دفعاً للرشوة حيث أفاد 12% فقط من المستطلعين بدفعهم للرشوة، وكانت أكثر الخدمات العامة التي يضطر المواطن الفلسطيني لدفع رشوة للحصول عليها الخدمات الشرطية بنسبة 17%. وأقل خدمة يدفع عليها رشاوى هي التعليم الحكومي 6% وذلك لمجانيته تقريباً. وأظهر المبحوثون تحمسهم الشديد لمحاربة الفساد، حيث أجاب 82% منهم بأنهم يستطيعون إحداث فرق أو تغيير من خلال انخراطهم في مكافحة الفساد، ويعتقد 68% من المواطنين بأنهم يفضلون الانخراط في مكافحة الفساد عن طريق الاحتجاجات والاعتصامات السلمية.
 
الفساد في عيون الشعب
إلى ذلك، يرى عبد الرحيم زايد أن المنظومة العامة في فلسطين أُسست على الفساد لينتشر في كل القطاعات والمؤسسات الخاصة وشبه الحكومية والحكومية، بينما خالد معالي فيقول أن عدم وجود إرادة حقيقة من قبل الجهات المعنية أو العدالة والنزاهة في التعاطي مع هذه القضية يساعد كثيراً في انتشارها وتعميقها، منوهاً إلى أن الفساد يصعب معالجته دون وجود أدوات واضحة وقرارات حازمة لاجتثاثه.
 
وبخصوص أبرز المعيقات فإن رياض قدرية يشير إلى أبرزها، متمثلة في: الاحتلال الذي يفرض نفسه على الواقع بشكلٍ مباشر وتحديداً عند المساس بقضايا وشخصيات بطريقة أو أخرى محسوبة عليه، عدم استقلال القضاء بشكلٍ كامل عن السلطة التنفيذية، قلة الخبرة، عدم القدرة على الوصول للمعلومات والملفات ذات العلاقة، الواسطة والمحسوبية، محدودية المؤسسات الأهلية العاملة في هذا المجال للتوعية والإرشاد. ولمواجهة مثل هذه المعيقات فيتوجب القيام بجملة أمور ( وفق قدرية)، هي: ضمان الأجواء والظروف الملائمة لإجراءات التحقيق، الشفافية المطلقة، الحيادية، القضاء المستقل، تعاون حقيقي وفاعل بين الأطراف ذات العلاقة.
 
من جانبه يقول إبراهيم عنقاوي إن من الأسباب لانتشار الفساد في فلسطين:عدم توفر قانون الحصول على المعلومات، وهذا يُصعب من مهمة الإعلامي في تتبع قضايا الفساد المختلفة،غياب المجلس التشريعي، وهو صاحب السلطة الأقوى والأوسع في الرقابة والمساءلة، خضوع ديوان الرقابة المالية والإدارية لسيطرة السلطة التنفيذية،وهي تتحكم فيه، الثقافة الاجتماعية السائدة في قضايا الواسطة والمحسوبية والمحاباة وغيرها لا تزال منتشرة في المجتمع بشكلٍ واسع، والتي يعتبرها جزء كبير من المواطنين تقع ضمن المساعدة وليست ضمن الفساد، علاوة على عدم تنفيذ قرارات المحاكم في بعض الأحيان.
 
بدوره يؤكد إسلام البياري أنه من الناحية القانونية هناك ثلاثة بيئات للفساد، وهي: المؤسسات الحكومية والوطنية، وأفراد الدولة، ومؤسسات ومنظمات الدولة الخاصة، منوهاً إلى أهمية توسيع الرقابة على المؤسسات الثلاث من خلال وضع إجراءات قانونية تساعد بشكل قانوني على تطبيق النص القانوني بشكلٍ صحيح وفعال دون مماطلة في الإجراءات القانونية للهروب من العقاب والحيلولة من تطبيق العقوبة على الفاسدين.  ويوضح البياري أن هناك أشخاص يهربون من العقوبة من خلال اللجوء إلى دول أخرى لا تستطيع دولتهم ملاحقتهم لعدم وجود نصوص يمكن أن تحاكم هؤلاء الفارين من العدالة، وأيضا لعدم وجود اتفاقيات دولية مع دولهم، مع الإشارة هنا إلى أن  فلسطين انضمت لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وأيضاً الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد الذي وقعها وزير العدل والداخلية سابقاً مع الدول العربية وتعتبر سارية الآن.
 
وبشأن الحلول، فتتمثل أهمها، وفق البياري، في: بناء قواعد قانونية جديدة تساعد رجال القانون على تسريع إجراءات الملاحقة ومعالجة موضوع الشخص الهارب الذي يحمل عدة جنسيات مختلفة من أجل الإفلات من العقوبة، وجود إرادة لبعض الدول لملاحقة الفارين من العدالة وتسليمهم لدولهم، إبرام اتفاقيات فلسطينية جديدة تأخذ بعين الاعتبار تغير المركز القانوني لدولة فلسطين بعدما أصبحت دولة غير عضو دائم في الأمم المتحدة، تقديم الطلب من قبل دولة فلسطين بشكل صحيح ومقنن بشكل قانوني من حيث الشكل والإجراء حتى لا يطعن به من قبل الهارب من قبل هذه الدولة أو تلك.
 
وفي السياق ذاته قمنا بطرح جملة من الأسئلة على عدد من المواطنين، ذكوراً وإناثاً، حول الفساد، فبخصوص أهم أسباب الفساد أفادوا أن سببه يرجع إلى نزعة شخصية تحركها المصلحة الذاتية، عند توافر بيئة مساعدة، يتم انتهازها من قبل الفاسدين. وأهم الأسباب، وفق هؤلاء: ضعف الإرادة والنية الصادقة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث، ضعف وسائل الإعلام، ومحدودية الحريات التي تتمتع بها في الكشف عن قضايا الفساد، ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات  المتخصصة بمحاربة الفساد، عدم مبادرة أو جرأة كثير من الناس في إعلام المؤسسات المعنية بمحاربة الفساد بحالاته أو بأسماء الفاسدين.
 
 أشكال، صور، وتأثيرات
وبخصوص أكثر اشكال الفساد بنظر الجمهور، فتتمثل في:المحسوبية، والمحاباة، والواسطة، واستغلال المنصب العام، والتكسب الوظيفي، وإهدار المال العام واختلاسه، وضع اليد على الممتلكات العامة،  الكسب غير المشروع، الموظف الوهمي، وتضارب المصالح، وتهريب الاموال وغسلها، والرشوة، الفساد الاخلاقي، الفساد الاداري. أما بشأن صوره فيمكن اجمالها في: تخصيص وظيفة لقريب دون مقابلته، تدخل معلم لقبول ابن صديقه في المدرسة رغم عدم نجاحه في امتحان القبول، قضاء وقت العمل في مكالمات خاصة، زيادة علامات لابن المدير، استخدام سيارة الحكومة في الأعراس، تقديم هدية لموظف مقابل الحصول على مصلحة، قيام المسؤول بتوزيع المساعدات المقدمة للقرية على اقاربه فقط ، قيام أحد الموظفين باستخدام ماكينة تصوير في الوزارة ليصور وثائق خاصة لزوجته، إعطاء منحة اكاديمية خارج الوطن لابن مسؤول رغم عدم استحقاقه لها، صرف راتب لشخص دون أن يواظب على رأس عمله.
 
وبسؤالهم عن تأثير الفساد قدموا إجابات عديدة، نذكر منها: قتل روح حرية الإبداع والتفكير والتعبير والفعل، حرمان الكثير من المساواة في تكافؤ فرص العمل والصحة وسواها من الحقوق لا سيما في المنح والسفر والتدريب والتأهيل وغيرها، إجبار المبدعين للهجرة إلى الخارج لعدم حصولهم على حقوقهم أو تطوير قدراتهم ومشاركتهم في المجال العام بسبب غياب المساواة والإنصاف، سوء توزيع الدخل، والاحتقان والانحراف الاجتماعي وتعطيل القوة الفاعلة للمجتمع، إلى جانب تعرض المواطن الذي لم يحصل على حقه للعزلة والاغتراب الاجتماعي وما إلى ذلك من أمراض نفسية قد يتحول بسببها إلى حاقد على المجتمع ومتمرد على قيمه. 
 
 
قصص وحالات
قمنا بتلخيص جملة من الآراء التي تصف الفساد، والقصص التي تعرض فيها مواطنين لأشكال متعددة من الفساد. وفيما يتعلق بالآراء أفادوا: الفساد صورة أخرى للهلاك، عندما نسمع كلمة فساد نتذكر الشر والخراب والظلم والفقر والجوع، هو جريمة تتجسد في ازدياد صور الانحراف، وهو عكس الاستقامة والنزاهة، نخاف كثيراً من الفساد لان حضوره يعني غياب فرصة العمل.
 
وبشأن القصص، يقول شاب: "عندما أنهيت دراستي، بدأت بالبحث عن وظيفة، قيل لي أنني بحاجة إلى واسطة وإلا سأمكث في لعنة البطالة سنوات وسنوات". طالبة جامعية تقول: "قرأت أن شخصاً أرسل بالبريد الإلكتروني إلى وزارة التعليم تحدث بها عن مدى البؤس الذي يشعر به، وأنه لا يستطيع الحصول على وظيفة، إذ قيل له: ليس لديك واسطة؟ لا يمكنك حتى أن تحصل على كوب من الماء دون الواسطة! لقد صدمت". تقول شابة: "الواسطة توجد في كل بيت، وفي كل سلطة،  يوجد فساد في الوزارات والأحزاب والمنظمات الأهلية وغيرها. إننا بحاجة إلى سنوات للتغيير، ولا يمكن أن نغير في يوم واحد". يقول شاب: "للواسطة تأثير كبير على حماسنا للعمل. المحسوبية تبطل الأمل في العثور على وظيفة،  أعرف أُناساً فشلوا في المدرسة أو حتى  لم يتعلموا، ويعملون حالياً.. الناس يوظفون أقاربهم وأصدقاءهم".
 
السبيل للمواجهة!
من خلال سؤال عينة من المواطنين حول الآليات المناسبة لمواجهة الفساد والحد من آثاره ومخاطره فقد ذكروا الآتي: يجب تطوير نظم التعليم بطريقة تسمح بتعليم وممارسة مبادئ الحكم الرشيد، تطوير مناهج خاصة تتناول مبادئ الحكم الرشيد ونماذج تطبيقية له، نشر الوعي بمفهوم الحكم الرشيد والمسؤولية المدنية لدى جميع فئات المجتمع وقياداته السياسية والتقليدية والدينية، إشراك الشباب في عملية التحول الديمقراطي، وفي كيفية تفعيل دورهم في إرساء مبادئ الحكم الصالح، ضرورة وجود قضاء وإعلام مستقلين، وفاعلين، تفعيل نشاط مؤسسات المجتمع المدني في قضايا الفساد، تطوير واستحداث قوانين فاعلة في هذا المجال.
 
خلاصة القول: رغم أن الحديث عن الفساد يمتد ويتشابك فإننا نقول بإيجاز: إن محاربة الفساد والقضاء على المفسدين ستدفع الأمة دفعاً إلى عالم النهضة والتقدم، فهذه المليارات التي تذهب عن طريق الفساد إلى جيوب حفنة من المتنفذين والمسؤولين وكبار الموظفين كفيلة بإقامة المصانع والمزارع التي تجعلنا سادة أنفسنا وتخلصنا من هيمنة الآخرين علينا في كافة الصعد. محاربة الفساد يعني التخلص من ويلات البطالة والفقر والمرض والعنف والجوع والتبعية والتمرد وسواها.. مكافحة الفساد يعني الوصول إلى درجة من التقدم والتمكين والسيادة الحقيقية.. طالما بقي الفساد ثقافة ومنتشراً وممأسساً ومحمياً طالما بقينا في مصاف التخلف، بوصلتنا نحو الضباب وقاربنا صوب الغرق...