الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حرِّر نفسك بنفسك/ بقلم: الأسير وليد دقة

2020-04-16 04:07:49 PM
حرِّر نفسك بنفسك/ بقلم: الأسير وليد دقة
الأسير وليد دقة

 

كتب المناضل وليد دقَّة، الذي دخل قبل ثلاثة أسابيع عامه الخامس والثلاثين في الأسر، هذه المقالة لصحيفة "الحدث" خلال حملة التنكيل الأخيرة به، حيث يتعرَّض للنقل التعسفي، والعزل، والحرمان من الزيارة عقاباً له على نتاجاته الفكرية، وتحرير نطفة مكنَّته وزوجته سناء سلامة من إنجاب طفلتهما ميلاد في 3 شباط 2020. في هذه المقالة، المحررة من السجن على ثلاث دفعات، من الإحاطة والعمق ما يجعلها درساً في استعادة الروح الجامعة لترميم ما تهاوى من الهوية الوطنية الفلسطينية بين مشروع التحرر ومشروع السلطة.   

 

في الوقت الذي تتراجع فيه الثقافة النصية العميقة لصالح الصورة والاستهلاك النصي القصير، تزداد أهمية الأولى في السجون كأداة صمود فردي مستفيدة من أهمية انعزال الأسرى عن عالم التكنولوجيا والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، من جهة، وازدياد تعقل واقعهم بفعل تداعيات هذا التطور عن حياتهم وحاجاتهم لمواجهته، من جهة أخرى... حيث يتسرب واقع الحداثة إليهم من خلال سجَّانهم الذي يعتمد في احتجازه وقمعه لهم على أدوات ونظم إدارة حديثة وهندسة بشرية مركبة.

وإذا كانت النظم الحديثة قد أضعفت في واقع الدولة القومية سيادتها وقدرتها على ضبط العملية التعليمية، وأدخلت إلى برامجها الثقافية، تحت ضغط العولمة، قيماً ذوَّتت المجتمع وأضعفت تماسكه، فإن هذه الأدوات، في واقع الأسر، قد حولت السجون كمؤسسات مغلقة، لكلية الشمول والضغط، دون أن تترك أثراً واضحاً يمكن تتبعه ومواجهته بالخطاب الوطني القديم، أو الإشارة إليه كسبب في الإحساس بالضعف أو الشعور بالألم أو حتى كخرق يمكن للمؤسسات الحقوقية أن تدوِّنه انتهاكاً.

عندما يضعف واقعك المادي، ويغدو بسيطاً بخياراته أثناء المواجهة، من المفترض أن تتضح الرؤية. لكن عندما يكون عدوك مدججاً بكل الوسائل العلمية، فأنت المهزوم أمامه مادياً، ملقى على الأرض غير قادر على مواجهته، والأصعب غير قادر على تفسير هزيمتك وضعفك أو حتى على الصراخ. يبقى أمامك، في ظل غياب الأداة الوطنية المنظمة على شاكلة حركة تحرر، أن ترفض أنت كفرد تذريرك أو تشتيتك، وأن تبقى متمسكاً بروايتك، وأن تكررها لنفسك قبل أن تصرخها للآخرين حتى لا تنسى من أنت.

فإذا كنا كوطنيين في مرحلة الدولة الحديثة نواجه الوشاة والعملاء، عملاء الاستعمار والاحتلال بوسائل حركة التحرر وخطابها (مرحلة الكلب أبو ناب)، فإننا في دولة الاحتلال ما بعد الحداثية نواجه محاولات تغيير الوعي بضبع الشعوب، والتسلل إلى وعي الأفراد وجعلهم ينساقون حيث يريد المحتل بأدواتهم (مرحلة الضبع سحويل). والضبع، في الحكاية الشعبية، لا يقوم بافتراسك، وإنما بضبعك أولاً، وجعلك مسلوب الإرادة والوعي للحد الذي تبدأ بمناداته (يابا) ولا تصحو إلا بارتطام رأسك بجدار مغارته حتى ينزف دمك. ونزيف الدم من الرأس وليس من أي عضو آخر يشير، في هذه الحكاية الشعبية، إلى ضرورة استعادة الوعي لاستعادة الإرادة المسلوبة.

بهذا المعنى، تكتسب الحرية كقيمة إلى جانب التحرر معنى جديداً في مرحلة الاحتلال الـما بعد حداثي بصفتها شرط الإرادة. لقد تحوَّل الأخ الأكبر (جورج أورويل) إلى مراقب في محاولة لتقليده وترديد مفرداته أو استهلاك بضاعته، فأنت على الهواء مباشرة تفشي للمحتل عن طيب خاطر بأدق تفاصيل خصوصيتك وتتنازل عن حريتك موهوماً بأنك تمارسها، وأنت في الحقيقة لست سوى مضبوع يردد خلف المحتل (يابا).

السجن الما بعد حداثي الذي تعيشه الحركة الأسيرة غدا اليوم أكثر تركيباً، ويستدعي منا تفكيكه وفهمه، كواقع لنتمكن من إعادة تعريف التعذيب أو تعريف الألم، أدوات أكثر تعقيداً أو ربما لخطاب أو ثقافة تعتمد على العقل وتخاطبه أكثر مما كنا نحتاجه لفهم السجن ومواجهته في الزمن الحداثي، ففي هذا الأخير ظل التقسيم واضحاً لا سيما في بلدان الاستبداد العربي، ما بين سجان يحمل هراوة وسجين مقيَّد المعصمين ما يجعل مشهد الأسر غاية في الوضوح والبساطة.

وعندما تكون المسافة بين نحن وهم كوضوح المسافة بين الشتاء والصيف في السجن، حيث لا جدوى للفصول الوسطية، فلا لوز يزهر ولا أوراق الخريف تتساقط، يبدو اليقين مغرياً ودافئاً لا يستدعي منا تحدياً جدياً، وإنما نستكين للخطاب الجماعي ورفع الهمم والحث على الصمود، فصدقية الطريق لا تحتاج إلى برهان، فهي واضحة وضوح القيد. والخطاب الجماعي بطبيعته مشحون بالعواطف والإيديولوجيا، وتستهدف مفرداته الصمود المادي بشكل أساسي، فيسطِّح الثقافة بين أخيار وأشرار، ويختزل النضال بشكل واحد دون غيره، فنبتعد عن الرواية الأساسية التي انطلقنا منها، ونقترب من الدولة، أو هكذا يبدو لنا، ونبتعد عن الوطن.

ولما كفَّت الزنزانة في الحقبة الما بعد حداثية في واقع السجون الإسرائيلية عن القيام ببعض وظائفها، الحرمان من الضوء والإخفاء، واحتفظت بوظيفتها الثالثة، الحبس الذي يعد حبساً يحجب الشمس عن الأسير ولا يخفيه مقيداً في دهاليز مظلمة تحت الأرض، فإن ذلك لا يعني بأن السجن تحول لأقل فظاعة وقسوة، وإنما انتقل من استهدافه جسد الأسير وصار موضوعه عقل الأسير الذي يراد له أن يتحول إلى زنزانة فعلية، وحواس الأسير لأدوات تعذيب.

في هذا السياق، والمعنى الجديد للسجن، الذي يمكن تلخيصه، بعنوان: "عذب نفسك بنفس"، ثم استدعاء شعار "ثقف نفسك بنفسك"، تكتسب الثقافة في أوساط الحركة الأسيرة أهمية ليس بوصفها أداة صمود وطني فحسب، لا سيما وأن الخطاب الثقافي الفصائلي، كثقافة اعرف عدوك، مثلاً، انقرض بغالبيته بعد اتفاقية أوسلو، وما تبقى منه لم يعد قادراً على تفسير الواقع الوطني، خصوصاً واقع الأسرى وتعقيداته... وإنما بصفتها، أي الثقافة، وسيلة للصمود الذاتي وضرورة للحفاظ التوازن العقلي والنفسي بهدف الإبقاء على الذات كقيمة إنسانية وأخلاقية أولاً، وكقيمة وطنية ثانياً.

مثلت الثقافة التي قدمتها الفصائل للأسرى حتي نهاية الثمانينيات، والمشتقة من مبدأ المركزية الديمقراطية، مناراً أضاء لنا وجهتنا، بعداً و قرباً، من الشاطئ وبر الأمان، أو هكذا بدا لنا الأمر، وتبدَّى لنا يقيننا في زمن لم تنفصل فيه بعد السياسة عن الاقتصاد، وكانت قيم الفرد والجماعة لا تزال متشابكة في نسيج وطني سميناه "حركة تحرر"، بينما الثقافة اليوم وفي مواجهة الواقع ما بعد الحداثي تتشبه البوصلة الفردية أو الـGPS الخاص بكل أسير الذي يبحث عن يقينه بعد أن كانت الفصائل تشكل يقيناً تماماً كالدولة الوطنية التي تخلت عن وظائفها التاريخية لصالح اقتصاد العولمة النيوليبرالية ودورها في بلورة الهوية الوطنية ومجمل وظائفها التاريخية تاركة مواطنيها يواجهون مصيرهم بقواهم الفردية.

هكذا، تخلت حركة التحرر الوطني عن وظائفها لصالح أوسلو، فتنازلت عن فكرة الوطن لصالح الدولة، وصار التحرر والسيادة تقضم بالوطن والرواية التاريخية وأبيدت الحرية بالملاحقة الأمنية، ما زاد الأسير المراقب للمشهد الفلسطيني من داخل زنزانته ارتباكاً، فتحوَّل شحن الهوية الوطنية إلى مهمة فردية يؤديها كل أسير بذاته.

إن الهويات وإن كانت متخيلة، أو كما يعرفها البعض "متخيلاً جماعياً"، ويقيناً نتصوَّره، وحكاية نحكيها لأنفسنا كشعوب حتى يبقى الواقع مفهوماً لنا، فإنها في الأسر آخر معاقل العقل، وتنتج ذاتك وهويتك وتشحنها بمعاني أخلاقية ووطنية جديدة لتحافظ على توازنك في ظل واقع مجنون. فأنت، كإنديفديوال (فرد)، تكتشف، وبقواك الذاتية، أهمية الجماعة. وتعيد صياغة روابطك الجماعية عبر الانتصار للحكاية التي ترددها لنفسك. ليس وفقاً لواقعك الجماعي الفلسطيني كما هو حاصل، والذي يقودك إلى الإحباط والجنون، وإنما وفقاً لمتخيلات تريد بها إنتاج عقلك أو الأصح عقلانيتك. تماماً المضرب عن الطعام الذي خلا جسده من أي طاقة، خلو لكن بمنطق العقل الأدائي، وتوقف عن حرمان نفسه من الطعام، الذي إن استمر به سيقوده إلى موت محتم.

هنا، يكتشف الأسرى التجربة دون نص، ويتعلمون، على جلودهم، بأنه "ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان"، لكن هذا في تكوين الذات داخلياً، بينما التعاون مع السجان أو الاحتلال، فإنه يدرك بأنه "لا توراة دون قمح". وفي السعي لحل المعضلة ما بين المقولتين، يكتشف الأسير أهمية هذا التوتر ما بين الخبز والتوراة في صياغة عقلين. العقل الأداتي، والعقلانية التي تشمل متطلبات الروح والقلب والأخلاق، وتصبح التعددية طاقة بناء وليست طاقة هدم في تعريفه للوطن. فيقترب الماركسي من الإسلامي، والديني من العلماني. في إطار الهوية التي لا تنفي الآخر ولا تشيطنه، وتجعل إمكانية العمل المشترك محور الحقيقة ممكناً. في هذا السياق، كان للدراسة الأكاديمية دور كبير في صياغة مثل هذا الوعي وتحويله إلى سلوك وواقع ملموس.

إن النص الثقافي الشاحن للهوية في الأسر، ليس بالضرورة نصاً مكتوباً، وإنما في الغالب مجموعة من السلوكيات اليومية والمواقف التي يعيد الأسرى من خلالها إنتاج قيمهم الوطنية والأخلاقية الجامعة. وهم، بذلك، يوسِّعون حدود هويتهم، فيتحول الأسير إلى "نص" حي، ويغدون بعضهم لبعض كتباً مفتوحة تتثاقف فيما بينها. وبهذا المعنى لا يبقى الوعي ذاتياً، وإنما يأخذ بعده الاجتماعي. عندما يكون الأسير نصَّ ذاتِهِ، ويغيب المثقف الفلسطيني الذي يمكن أن يحوله إلى نص مكتوب، بعيداً عن خطاب عمالقة الصبر وجنرالاته، فإن المثقف الأسير يتحول إلى المشهد والمشاهِد، والمعذَّب والذي يبلغ عن التعذيب، والتجريد والتفصيل في الوقت ذاته. وهذه المهمة هي مهمة صعبة، وتكاد تكون، في أحيان كثيرة، مهمة مستحيلة.

لم تمنع إدارة السجون التعليم الأكاديمي للأسرى لاعتبارات التضييق والانتقام، وإن لم يخل قرارها منه، وإنما قادها إلى ذلك ونبهها إليه مشهد مئات الأسرى ممن التحقوا بالجامعة العبرية المفتوحة ومن ثم بالجامعات الفلسطينية ولا سيما جامعة القدس – أبو ديس وهم ينكبُّون على كتبهم وكراريسهم لساعات طويلة أرادها السجان زمناً يسرق الروح ويفرِّغها.

لقد مكَّنت الدراسة الأكاديمية الأسرى من أدوات علمية لمواجهة واقعهم، وانكشفوا، لأول مرة، على نظريات في العلوم الاجتماعية والسياسية والعلاقات الدولية وغيرها... وأدركوا من خلالها، بعيداً عن الشعارات والخطابات الإيديولوجية، أن فلسطين، التي ناضلوا ولوحقوا واستشهد رفاقهم من أجلها، لم يكونوا يعرفونها تمام المعرفة، وليست مبالغة إن قلنا، هنا، إن الدراسة الأكاديمية شكَّلت حامية للوعي في ظل غياب الثقافة والتعبئة الوطنية، بل حالت دون تشوُّه الوعي في ظل الانقسام الفلسطيني الذي تحول إلى موضوع بحثي للطلاب الأسرى.

إن لقاء الأسرى من كافة الفصائل في حلقات دراسية شكَّل فرصة للنقاش الموضوعي حول الهموم الوطنية، وتمريناً في الحوار الديمقراطي، كما شكَّل برنامج الدراسات الإسرائيلية لدرجة الماجستير والذي يشترط إتقان الطالب اللغة العبرية، فرصة لفهم الآخر ليس من باب "اعرف عدوك"، الذي ينحصر في المعرفة الأمنية والعسكرية، وإنما إدراك الأسس الفكرية والدينية التي تقف خلف مشروعه الكولونيالي. ومع ذلك تبقى نسبة الطلاب الأسرى قياساً بعدد الأسرى نخبة قليلة ما زالت غير مؤثرة في توجهات الحركة الوطنية والحركة الأسيرة، خاصة أن هذه التجربة تنحصر في سجن "هداريم".