ترجمة الحدث - محمد بدر
أصدر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ورقة تقدير موقف، ترجمتها صحيفة الحدث، حول اتفاق السلام الإسرائيلي الإماراتي، من إعداد مدير معهد دراسات الأمن القومي العميد الجنرال احتياط أودي ديكل، وخبير الشؤون الإستراتيجية كوبي ميخائيل، جاء فيها:
لطالما كانت القضية الفلسطينية لسنوات عديدة مكونًا مهمًا وحتى مركزيًا في جدول أعمال العالم العربي، لكن الاضطرابات، التي وقعت في الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي (الربيع العربي) وجهود إيران وتركيا لتوسيع نفوذهما الإقليمي إلى جانب التحدي السلفي الجهادي وموقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنحاز بقوة لإسرائيل، أدت إلى تآكل أهمية ومركزية القضية الفلسطينية في الأجندة الإقليمية والعربية.
أدركت القيادة الفلسطينية الأثر السلبي للتغيير الحاصل في المنطقة والعالم على القضية الفلسطينية، لكنها ما زالت تحاول الحفاظ على نوع من الأمل في الحفاظ على التزام عربي أساسي على الأقل تجاه الفلسطينيين بما يشمل عدم إقدام دول الخليج على وجه الخصوص على إقامة علاقات تطبيع رسمية مع إسرائيل.
في يناير/ كانون الثاني 2020، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن "صفقة القرن" كخطة لحل "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني". تم تقديم الخطوط العريضة للصفقة كنموذج جديد لحل الصراع وتصميم هندسة شرق أوسطية جديدة، على أساس تحالف عربي أمريكي إسرائيلي. غيّرت الصفقة المبادئ التي وجهت العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى العقود الثلاثة الماضية، وهو ما نفى عمليا الافتراض بأن الوقت يعمل لصالح المشروع الوطني الفلسطيني وأنه بمرور الوقت سيفرض المجتمع الدولي شروطا فلسطينية على إسرائيل.
كما تنفي صفقة القرن المطلب الفلسطيني بـ "الكل أو لا شيء" وكذلك حق النقض الفلسطيني على أي حل لا يوفر استجابة كاملة لرغبات القيادة الفلسطينية. السلطة الفلسطينية والتيارات الفلسطينية الأخرى، التي رأت في الصفقة أنها استجابة فعلية لمطالب اليمين في إسرائيل بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رفضتها بشدة بل وتعمد الرئيس الفلسطيني محمود عباس إهانة ترامب علانية.
كان رد الفعل الفلسطيني على الصفقة مسمارًا آخر في نعش علاقات القيادة الفلسطينية وإدارة ترامب، وتسبب إعلان قطع العلاقات مع السلطة الفلسطينية في إلحاق أضرار سياسية واقتصادية خطيرة بالسلطة الفلسطينية، وفي محاولة للحد من الأضرار التي لحقت بمكانتها والمصاعب الاقتصادية، ألقت السلطة الفلسطينية بالمسؤولية على المجتمع الدولي الذي عارض صفقة ترامب، كما وحاولت أيضا الحصول على الدعم العربي في هذا السياق.
بدا للحظة أن صفقة القرن ستنضم إلى الخطط الأخرى التي تحاول تحريك البرامج والقواعد التقليدية المتكدسة على رف التاريخ. ومع ذلك، سرعان ما تم توجيه ضربة أخرى إلى المشروع الوطني الفلسطيني تمثلت بإعلان رئيس الوزراء نتنياهو عن نيته "تطبيق السيادة" وضم إسرائيلي أحادي الجانب لأراض في الضفة الغربية، استنادا إلى الخريطة، التي أقرتها صفقة القرن. أوضح نتنياهو أن إسرائيل لديها فرصة لمرة واحدة، بدعم من إدارة ترامب، لتغيير وجه الصراع، وقال: "حتى اليوم، لطالما كانت إسرائيل هي التي يجب أن تستسلم وتسلم وتجمد وتتراجع... الآن جاء الرئيس ترامب وقال إن الفلسطينيين هم الذين يجب أن يستسلموا ويتنازلوا".
بعد تشكيل حكومة الوحدة في إسرائيل، التي أعلنت أن مخطط الضم يقع ضمن استراتيجياتها، أعلن الرئيس محمود عباس عن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ووقف استلام أموال المقاصة. في الوقت نفسه، بذلت القيادة الفلسطينية جهودًا نشطة لتعبئة المجتمع الدولي ضد مخطط الضم. في الواقع، عارض الاتحاد الأوروبي والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة ودول أخرى المخطط وهدد البعض بفرض عقوبات على إسرائيل إذا تم تنفيذه. في العالم العربي أيضًا، كانت هناك انتقادات للضم، وإن كانت ضعيفة. في الوقت نفسه، بدأ النظام الفلسطيني يتجهز لممارسة كفاح شعبي واسع غير مسلح لوقف عملية الضم، وبدأت رياح المصالحة تهب بين فتح وحماس.
ثم جاءت الضربة الثالثة للفلسطينيين، والتي تشكلت بناءً على الفكرة الاستراتيجية لصفقة ترامب بإنشاء تحالف عربي إسرائيلي إقليمي، بشكل أساسي ضد التهديد الإيراني. بدعم من فريق الرئيس ترامب، أعلنت الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل علاقات رسمية وطبيعية. يمكن اعتبار الشرط الذي وضعه ولي عهد الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد بإلغاء عملية الضم، بدعم من مستشار الرئيس ترامب جاريد كوشنر، بمثابة إنجاز للفلسطينيين، لذا حرصت الإمارات على الإعلان عنه، وحاول نتنياهو التخفيف من أهمية شرط إلغاء الضم، قائلا إنه تعليق مؤقت واستجابة لطلب الرئيس ترامب.
بالنسبة للقيادة الفلسطينية، كانت هذه هي الضربة الأشد، لأنها حُرمت فعليًا من حق النقض على تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، طالما لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل يقضي بإنشاء دولة فلسطينية على أساس حدود عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها بالإضافة لعودة اللاجئين، وبذلك تكون المبادرة العربية للسلام قد تبخرت، وانهارت استراتيجية العمل الفلسطينية، وأصبح تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية غير مرتبط بالقضية الفلسطينية كما كان في الماضي.
صُدمت القيادة الفلسطينية بالموقف الإماراتي، لكنها سرعان ما تحركت بصوت عال. قال المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، إن القيادة الفلسطينية تدين اتفاق الإمارات مع إسرائيل، لأنها خطوة من شأنها تقويض مبادرة السلام العربية وقرارات القمتين العربية والإسلامية والشرعية الدولية، وهذا الاتفاق عبارة عن عدوان على الشعب الفلسطيني واحتقار لمطالبه. ودعا الفلسطينيون إلى اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لرفض الاتفاق، وتحدث رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، مع الرئيس عباس، مؤكدا دعمه للقيادة الفلسطينية، واستعداده لأي عمل مشترك تحت مظلة الرئيس.
للاتفاق بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة مجموعة متنوعة من التداعيات المحتملة على مستقبل السلطة الفلسطينية. أولاً، شكل الاتفاق ضربة قاسية لهيبة الرئيس عباس، وأثبت فشل استراتيجيته على الساحتين الدولية والإقليمية. لذلك، من المتوقع أن يشتد الصراع داخل فتح على القيادة، وقد يعود محمد دحلان المدعوم من الإمارات إلى الصراع على الخلافة. إن ارتفاع مكانة الإمارات في نظر إسرائيل والإدارة الأمريكية، فضلاً عن قربها من السعودية ومصر، سيؤدي إلى معاملة دحلان معاملة خاصة من قبل هذه الفواعل، وقد يدفعها إلى تشجيع الخلافات داخل فتح من أجل تمكين دحلان من العودة.
ثانيًا، على الرغم من وقوف حماس إلى جانب الرئيس عباس في مواجهة الاتفاق بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، إلا أنها ترى في هذا التطور فرصة لقيادة الأجندة الفلسطينية. بالنسبة لها، فإن فشل السلطة الفلسطينية هو فشل إستراتيجية النضال السياسي والشعبي، وتأكيد على شرعية المقاومة المسلحة، وقد تتجه حماس لتحسين وضعها في الضفة الغربية، حتى بالتعاون مع مقاتلي فتح الداعين إلى استئناف المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وفي هذا السياق، دعا اللواء جبريل الرجوب نشطاء فتح إلى تنحية المصالح الشخصية والعمل معًا في مقاومة الاحتلال، لإفشال مخططات إسرائيل، حتى لو تتطلب ذلك سقوط شهداء، مؤكدا أن الفلسطينيين على أهبة الاستعداد لتوجيه رسالة إلى إسرائيل مفادها أنها لا تستطيع العيش بسلام ما لم يعيش الفلسطينيون بسلام، وأنها مستعدة للمقاومة بالدم لإحراج الدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل.
ستحاول قطر وتركيا الاستفادة من المحنة الفلسطينية (الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي) لزيادة انخراطهما في الساحة الفلسطينية، في أعقاب جهودهما لتعزيز مكانتهما كلاعبين إقليميين مؤثرين، وهو ما سيثير استياء الإمارات والسعودية. تعمل قطر على زيادة نفوذها من خلال مساهمتها في تهدئة الأوضاع في قطاع غزة بتقديم 30 مليون دولار شهريًا لسكان القطاع، وفي الوقت نفسه تحاول إعادة خالد مشعل إلى رأس الهرم في حماس. تشجع تركيا المقاومة المسلحة وتعمل على تعزيز التواجد العسكري لحماس. كلاهما (قطر وتركيا) تعملان على تقوية الإخوان المسلمين والإسلام السياسي، وقد يكون ذلك من أهم أسباب ذهاب الإمارات باتجاه إسرائيل.
يعد الاتفاق مع دولة الإمارات العربية إنجازًا استراتيجيًا مهمًا لإسرائيل، سواء بسبب الفوائد الاقتصادية والأمنية الكامنة في التعاون الإقليمي بينهما، أو بسبب فك الارتباط عن المرساة الفلسطينية والفيتو الذي حال دون تعزيز التطبيع بينها وبين العالم العربي. مع ذلك، يجب على إسرائيل الانتباه إلى حقيقة أن الاتفاق يضعف السلطة الفلسطينية، التي تعاني من وضع سياسي واقتصادي هش. ومن المحتمل أن تؤدي أي ضربة إضافية إلى تسريع انهيارها، وهي نتيجة لا تتفق مع المصلحة الإسرائيلية.
إن تفكك السلطة الفلسطينية سيضع إسرائيل أمام سلسلة من التحديات المعقدة في كل من المجالين الأمني والاقتصادي والمدني، بسبب عبء المسؤولية عن 2.7 مليون فلسطيني في الضفة الغربية. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي انهيار السلطة الفلسطينية إلى تسريع الاتجاهات نحو خيار الحل على أساس الدولة الواحدة. ومن المتوقع أن تواجه إسرائيل تحدياً آخر إذا ما تخلت قيادة فتح عن المسار السياسي، وسارت على طريق حماس، واختارت المقاومة المسلحة، وعلى المؤسسة العسكرية الاستعداد لهذا الاحتمال.
لهذه الأسباب، من المهم طمأنة القيادة الفلسطينية بأن الضم قد تم تأجيله إلى موعد غير معروف، هذا إن ظل كخيار عملي، وبالتالي إعادة صياغة العلاقة بينها وبين إسرائيل قريبًا وتقويض تصورها للعملية على أنها "لعبة محصلتها صفر". من المناسب لإسرائيل أن تتخذ مقاربة داعمة للسلطة الفلسطينية، مع التركيز على التحركات والتغييرات التي من شأنها تحسين حكمها وسيطرتها الفعالة على أراضيها. وفي هذا الصدد، يجب العمل على تجديد تفعيل آليات التنسيق الأمني والمدني، بدلًا من الآليات التي تتجاوز السلطة الفلسطينية إلى الجمهور الفلسطيني، والتي تطورت منذ توقف تفعيلها. بالإضافة إلى ذلك، من المهم محاولة دمج السلطة الفلسطينية في المشاريع الاقتصادية والتكنولوجية التي سيتم تطويرها بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك تطوير لقاح لفيروس كورونا، بحيث تكون السلطة الفلسطينية جزءًا من التعاون الإقليمي وتتمتع بفوائده.
يجب على إسرائيل أن تستثمر كل جهد ممكن، بدعم أمريكي وتنسيق مع الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن، في توسيع التعاون الإقليمي والتطبيع مع دول الخليج، بدايةً مع البحرين وعُمان ثم المملكة العربية السعودية لاحقًا. ومع ذلك، لا يجب دفع السلطة الفلسطينية إلى الهامش. على العكس، يجب أن تعمل إسرائيل على انضمام السلطة إلى النظام الإقليمي الذي يتم تشكيله بحيث لا يكون التطبيع مع إسرائيل مشروطًا بالضرورة بترتيب ثنائي إسرائيلي فلسطيني. وفي هذا السياق، لا بد من بذل جهد إقليمي ودولي لإعادة السلطة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات، على أن تكون صفقة القرن من مرجعيات التسوية.