الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فتح 56

2020-12-30 10:33:32 AM
فتح 56
رولا سرحان

النكبةُ التي حلت بفلسطين عام 1948، ألغت شعب فلسطين من الخارطة السياسية الدولية، وألغت وطنه من الجغرافيا، وطمست هويته ومؤسساته من المكان، وأطلقت عليه مسميات لا تعترفُ بكيانه كقطاع غزة والضفة الغربية، وألحِق الفلسطينيون بالأردن وضاع معظمهم في الشتات لا هوية لهم غير بطاقة التموين ورعاية "الأونروا" لإغاثتهم وتشغيلهم ليظلوا على قيد الحياة.

ولم تستكن فئة طليعية من أبناء فلسطين لهذا الواقع المرير ولم تتقبل فكرة زرع كيان صهيوني على أرض الآباء والأجداد وطرد شعبٍ بأكمله من أرضه وهدم قراه ومدنه، فراحت قوى وأحزاب وحركات تدعو إلى لملمة شتات هذا الشعب من أجل فلسطين وتحرير فلسطين التي باتت في ذيل اهتمامات الدول العربية التي سلمت بوجود إسرائيل ككيان له حق الوجود في حدود آمنة ومعترف بها، خاصة بعد فشل تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا عام 1961. وبات الشباب الفلسطيني المنخرط في اتحادات الطلبة الفلسطينيين في جامعات القاهرة والإسكندرية ودمشق وبيروت يفكر في أخذ زمام معركة تحرير وطنه بيده وعدم الاتكال على الأنظمة العربية التي أدت إلى ضياع فلسطين عام 1948.

لم تكن حركة فتح وليدة عام انطلاقتها الأولى في الأول من يناير عام 1965، أو وليدة انطلاقتها الثانية بعد هزيمة حزيران عام 1967 ومعركة الكرامة عام 1968، حين أشعلت المنطقة العربية ثورة ورفعت الروح المعنوية للأمة العربية بعد الهزيمة المدوية للعرب واحتلال كامل فلسطين وسيناء المصرية والجولان السوري، إنما هي وليدة نحو عشرين عاماً من الإعداد والعمل السري وبلورة الأفكار ووحدة الهدف والقيادة من أجل أن يكون تمثيلها مستقلاً بعيداً عن الوصاية والتبعية والاحتواء شعار حركة فتح الأول والأخير في زمن الصراعات الدولية والأفكار والعقائد التي تبرز وتختفي على الساحة العربية والفلسطينية.

فجّر ياسر عرفات الثورة، وهكذا تبنت حركة فتح الكفاح المسلح لتحرير فلسطين ولحقت بها التنظيمات والحركات الأخرى. تبنت حركة فتح المرحلية النضالية وعارضتها تنظيمات فلسطينية أخرى في بداية السبعينات، ولكن سيطرة فتح على المنظمة جعلت من هذه السياسة، هي السياسة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلنت حركة فتح التي تقود منظمة التحرير في الجزائر استقلال دولة فلسطين ووافقت المنظمات على إعلان الاستقلال وعلى البرنامج السياسي المرافق له وفي صلبه الاعتراف بالقرارين 242 و338. من هنا بدأ الكفاحُ المسلح يتجه نحو المرحلية، المرحلية في النضال التي تبناها الراحل ياسر عرفات التي باتت السياسة التي حاكت كل وقائع التاريخ الفلسطيني المعاصر من إعلان الاستقلال والحوار مع الأمريكان ومؤتمر مدريد للسلام واتفاق أوسلو الذي نعيش في ظله، وهي كلها تأتي في إطار قرار المجلس الوطني الفلسطيني لعام 1974.

ولم تتوقف حركة فتح ولا قيادتها حول الاتهامات والانتقادات لاتفاقية أوسلو وما تزال ترى فيه ما رآه أبو عمار؛ الخطوة الأولى الضرورية لقيام الدولة الفلسطينة. ومع ذلك كانت حركة فتح تدرك وقياداتها أنها بتوقيع اتفاق أوسلو تحقق موطئ قدم محفوف بالمخاطر، ولكنها كانت تدرك أيضاً السؤال الأساسي: منذ متى كانت الظروف الموضوعية تعمل لصالحنا؟ من هنا قادت حركة فتح السلطة، وسمتها بـ "السلطة الوطنية الفلسطينية"، وانفردت بعملية صناعة القرار، وهمشت كل القوى والفصائل الأخرى، وصارت البندقيةُ تكتيكاً حتى أُخرجت من حلبة السياسة مثلما أخرج كل من يحملها من عملية صناعة القرار السياسي، فوصلنا إلى الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني، ليس لأن حماس مسؤولة عن "الانقلاب" على الشرعية، ولكن لأن فتح أكبرُ من أن يحدث في زمنها انقسامٌ وهي التي كانت الجامعة للتمثيل الفلسطيني.

تغيرت حركة فتح، بتغير المعطيات الدولية، وبتغير المصالح الدولية، وبتغير حجم الكيان الصهيوني وازدياد قوته ونفوذه عالمياً، وبسيطرته على دول الطوق المحيطة بفلسطين، وببدئه لنسج علاقات تطبيعٍ علنية مع الأنظمة العربية الاستبدادية التي لم تكن يوماً تريدُ تحرير فلسطين، بل اتخذتها مطيةً للحفاظ على بقائها كتركة مريضةٍ من تركات الاستعمار.

وما لم تقم به فتح هو أنها لم تستطع أن تطور نفسها كما تطور العالم من حولها، لم تستطع أن تجدد أدواتها النضالية، فبقيت تستهلك صندوق أدوات السلام، حتى صار شعارُ السلامِ شعاراً يُشبهُ شعارها الذي تحمله عن الكفاح المسلح كطريقٍ لتحرير فلسطين.

أفرغت العديد من القيادات الفعالة من دورها، وظهرت على ساحة فتح قياداتٌ لا سياسة لها ولا فكر وتقودُ الحركة نحو مزيدٍ من إفراغ الدور النضالي الذي تأسست عليه الحركة؛ واختفى المثقفون والأدباء والمفكرون وأصحاب الرأي من عملية الإنتاج الفكري والأيديولوجي للحركة. كما وانقسمت فتح إلى "فتحين" أو ثلاثة ولربما أربعة، فتح بقيادة الرئيس محمود عباس، وفتح بقيادة ما يسمى بـ "التيار الإصلاحي في حركة فتح" الذي يقوده محمد دحلان، وفتح الأسيرة في السجون، وفتح رابعة هي "فتح الشارع"، التي تؤمن بفتح الأولى، التي أطلقت الرصاصة الأولى، وهزمت الجيش الذي لا يهزم في انطلاقتها الثانية، والمستعدة لأن تقومَ من جديد في انطلاقةٍ ثالثة.

 فتح 56، هي فتح مرهقةً كهلةً، لكن ببقية من روح تجتهدُ ما أمكن كي تُحافظ على إرث وطني جامع بنضالٍ جماعي مشترك مع باقي فصائل العمل الوطني، مازالت فتح موجودة ولكنها بحاجةٍ لإخراجها عبر الحاضر وأدواته نحو شعارها الأول لتكون فتح ثورة مستمرةً متجددةً حتى النصر.