الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الديمقراطية والتفاهة والحوار غير المتكافئ| بقلم: ناجح شاهين

2022-02-02 10:05:47 AM
الديمقراطية والتفاهة والحوار غير المتكافئ| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

الرأسمالية تنشر التفاهة على أوسع نطاق ممكن. وتسهم وسائل التواصل الاجتماعي في ترويج الأفكار المعزولة الجزئية التي لا ترى الكلي ضاربة عرض الحائط باكتشاف أرسطو/ابن رشد الثوري الكلاسيكي: لا علم إلا بالكلي، فأصبحت النتف المعزولة هي كل ما يمكن العثور عليه في فضاء "المعرفة" الشعبوية السائدة. عندما ترسل لي إدارة فيس بوك تحذيرا شديد اللهجة بأنني أهدد الصحة العامة بنشري "معلومات مضللة" عن اللقاح، فإن هذا يعني أن كتم الصوت الآخر أمر مفتاحي في تكريس الهيمنة المطلقة لوجهة النظر السائدة، وأن "المعارضة" لا سبيل لها إلى تحقيق الفوز في التداول في أية قضية في الحيز العام بسبب هيمنة أصحاب القوة المالية والسياسية والعسكرية كونياً ومحلياً على مفاتيح الوعي والمعلومة وصناعة الرأي والعقل جميعاً ودون استثناء.

في هذا السياق تلعب مفاتيح مهمة من قبيل "التورط" وسيلكولوجيا حركة القطيع دوراً مهما في خدمة القوة المسيطرة على تكريس ما هو مسيطر وسائد وجعل زحزته عن موقع الهيمنة أمراً أقرب إلى الحلم والخيال. إن جوهر الموقف الديمقراطي هو موقف الأغلبية، لكن هذا الموقف الأغلبي غالباً ما يتصف بالبساطة وسهولة الانتشار وميله إلى الوضوح والاستقامة ونأيه بنفسه عن التشكيك والتفكير الحذر المبالغ به لمصلحة الثقة المبدئية بالواقع وتصديق ما هو معطى دون الميل إلى الشك ما دام ظاهر الأمور لا يوحي بإمكانية التشكيك. على سبيل المثال: لماذا نشك في لقاح كورونا ما دام البشر جميعاً يأخذونه بمن فيهم أبناء الدول المتقدمة مثل أمريكا وفرنسا وإسرائيل؟

يجب علينا أن لا نشك، وعلينا أن نثق في معطيات العلم في هذا السياق مثلما في غيره، وأن لا نكون ضحية لأسطورة المؤامرة التي تجعل المرء يتهم بشكل جنوني كل شيء بدون سند من الواقع. والواقع أن تهمة عقلية المؤامرة أصبحت أغلوطة جاهزة للتنديد بأي رأي يشكك بشكل أو بآخر في ما هو سائد ومنتشر.

من ناحية أخرى تلعب الديمقراطية في إحدى طرقها الإقناعية الرهيبة على سيكولوجيا التورط وخداع الذات. وفي حالة كورونا على سبيل المثال نجد أن الملايين من البشر الذين "تورطوا" طوعاً أو كرهاً في تعاطي لقاحات كورونا، قد أصبحوا أصحاب مصلحة كبيرة لا تخطئها العين في أن يكون اللقاح فعالاً ومفيداً وآمناً...الخ. ذلك أن العكس يعني أنهم تعرضوا للخديعة، وأنهم قد عرضوا أنفسهم للأذى عن وعي أو عن غير وعي. لذلك لا بد من إقناع الذات بأن المطعوم كان مفيداً، وأنه لو لم نأخذ المطعوم لكان وضعنا أسوأ بكثير مما هو عليه حالياً، وأنه مهما بدا أن الفيروس ينتشر بين الناس دون تمييز بين الأفراد الملقحين والأفراد غير الملقحين، أو الدول ذات التلقيح العالي والدول الغلبانة التي لا تلقيح لديها تقريباً، فإن هناك على الأرجح فائدة غامضة ما تأتي من تلقي اللقاح وتفعل فعلها بشكل أو بآخر. من ناحية أخرى يتمسك الناس في هذه اللحظة بالمصادرات التقديسية للعلم باعتبار أنه هو الملاذ الأخير مهما فكرنا، ويقدمون الإحصاءات التي تشير بشكل أو بآخر أن فرص الملقحين تظل أفضل من فرص غير الملقحين...الخ. لا بد ببساطة من إيهام الذات بأن اللقاحات مفيدة ومأمونة مهما بدت الوقائع ضعيفة في اتجاه مساندة هذا الفرض. ولا بد لذلك من إحسان الثقة بشركات اللقاح الأمريكية وغيرها وبالإحصاءات التي تصدر عن صناعة رأس المال لكي نطمئن أنفسنا أن الدنيا بخير.

في هذا السياق ينسى الناس أن صناعة الدواء والبحث الذي يحيط بها ويؤازرها جزء لا يتجزأ من دنيا رأس المال. وحتى أبناء اليسار الأكثر ميلاً للشك بالرأسمالية ومنتجاتها ينضمون الآن إلى الاتجاه المسيطر ويستبعدون بقوة وسرعة وشجاعة أية إمكانية لأن يكون هناك تلاعب بهذا المستوى الكوني بصحة البشر لدرجة أنهم لا يريدون أن يتذكروا شيئاً عن إدانة جونسون جونسون وفايزر مرات عدة في المحاكم بتهم التسبب الواعي بإيذاء آلاف البشر وصولا إلى إصابتهم بالسرطان في سبيل الربح. يصم المرء إذنيه عن الحقيقة لأنه قد تورط وانتهى الأمر وما عاد لديه فرصة للنجاة إلا أن تكون اللقاحات جيدة بالفعل، ولذلك لا بد لنا من النضال من أجل استبعاد الخيار المتصل بنقد اللقاح أو التراجع عنها.

بالطبع يظل الصواب هو الدعوة إلى فتح تحقيق جدي فيما يجري كونياً والتوقف عن اللقاح والقفز من هذه السفينة الغارقة، وذلك أفضل ألف مرة دون شك. لكن السيكولوجيا الجمعية القطيعية تدفع إلى العكس: المزيد من الانغماس في الخطأ، والمزيد من الجرعات التعزيزية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً.

هل سيعلم الناس بعد بضع سنوات أنهم قد تعرضوا للخديعة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى إيذاء مصداقية رأس المال وهز عرشه بشكل أو بآخر؟

بالطبع الجواب هو النفي. إن الغالبية الساحقة من الجماهير لن تعرف أبداً ما جرى على وجه الدقة حتى لو تم إعلانه على الملأ كله ودون أي تجميل أو اختزال أو اختصار. الإعلام الجمعي الرهيب يصنع الحدث والاهتمام به وقتما يشاء ويسحب منه ذلك وقتما يشاء. وهكذا فإن أسلحة العراق التدميرية تصبح شغل القاصي والداني طوال فترة الإعداد لاحتلال العراق. بعد الاحتلال والتدمير وقتل ملايين العراقيين لن يذكر أحد ضجيج النووي والكيماوي العراقي بالخير أو بالشر. وحتى عندما تنشر جهة حكومية أو أهلية بحثاً عن "أخطاء" التقديرات بوجود أسلحة دمار لدى العراق، فإنه يمر دون أن يلتفت إليه أحد. واعتماداً على هذا "السيناريو" لا تتردد المؤسسات الرأسمالية المختلفة في خداع الناس على نحو وقح في أي موضوع سياسي أو اقتصادي أو صحي ...الخ لأنها تعرف أن ذلك لن يؤذيها بأي شيء بسبب قدرتها على محو الموضوع من الأذهان ومن الاهتمام عن طريق سيل المعطيات والصور والمعلومات التي تتدفق على عيون الناس وآذانهم على مدار الساعة فتزغلل منهم السمع والأبصار وتجعلهم كالمضروبين على رؤوسهم تحسبهم سكارى وما هم بسكارى.

كيف يمكن أن يكون في سياق شروط الألعاب الديمقراطية من فرصة للمعارضة لكي تفوز؟ هل وصلنا إلى لحظة اليأس "الفوكوية" أو "الما بعد حداثية" بأن تضبيط الناس وتوجيه عقلهم ووعيهم وشحنهم بالمعلومات وتفريغها...الخ هي أمور تتجاوز قدرة الفعل الثوري التقليدي على المواجهة والتجاوز؟ إن الجواب على مثل هذه المعضلة الشائكة يظل بالطبع مفتوحاً على المستقبل قبل أي شيء آخر، ولا بد من أن نستعيد مقولة سمير أمين الرهيبة: إما الاشتراكية، وإما البربرية الشاملة.