الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

روسيا وأوكرانيا: بين "القومية الصالحة" و"القومية الطالحة"

2022-04-04 04:51:38 AM
روسيا وأوكرانيا: بين
رولا سرحان

دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الثاني، ليُلاحظ المراقبُ للإعلام الغربي، الذي يُهيمنُ على توجيه دفة وجهات النظر الغربية والتوقعات من مجمل الحرب وأفق سيرها، عودةَ مفهوم "القومية" كمفهوم مركزي يروج له الإعلاميون والمراسلون الصحفيون والمحللون والخبراء الذين تتم استضافتهم. بل وليُلاحظَ أيضاً نزعة نحو إطلاق توصيفات معيارية على مفهوم "القومية"، بحيث يجري توصيف ما تقوم به أوكرانيا اليوم باعتباره دفاعاً عن "القومية الصالحة/المحقة" (Righteous Nationalism). وليرتبط هذا التوصيف بعودة عبارات، لم تنسها الشعوب المقهورة، ونحن الفلسطينيين على وجه الخصوص، من قبيل: "الحق في تقرير المصير الوطني"، و"الحق في المقاومة"، و"الحق في الدفاع عن النفس". كما ظهرت توصيفات للأوكرانيين المدنيين الذين يُشاركون في الحرب باعتبارهم " جنودا-مواطنين" يُدافعون بدافع من "وطنيتهم" عن وطنهم. وقد شكل ذلك كله مبرراً سمح لمواقع التواصل الاجتماعي، التي تُحارب "المحتوى العنيف" كما تدعي، باستخدام ونشر "عبارات الكراهية والتحريض" ضد الروس، بل والسماح بنشر كيفية تصنيع قنابل المولوتوف والمساعدة في إيصال هذه اللقطات المصورة إلى أكبر عدد ممكن من المتابعين الأوكرانيين تحت ذريعة الدفاع عن "قوميتهم".

في عالمنا المُعولم، يأخذ الخطاب العالمي حول "القومية" اتجاهين، لهما بعد استشراقي قائم على "الجغرافيا المتخيلة" بالأساس التي نظر لها إدوارد سعيد، الأول يعمل على تعزيز الهويات القومية الانقسامية والانفصالية وتحديداً في العالم العربي وفي القسم الشرقي من أوروبا بغية إضعاف دول المنطقتين والاستمرار في الهيمنة عليها. وذلك بالانطلاق من أن تحقيق الدولة -الأمة، والتي هي أمة كل مواطنيها بغض النظر عن عرقهم ودينهم وجنسهم..، هي خطر على دول "الغرب"، وبالتالي فإن تقسيم الأمم إلى أقوام وجماعات على دويلات قطرية بذريعة اللحاق بركب القوميات الناجزة يبدو ملائماً لإبقاء تلك الدول في حالة التبعية والقابلية للسيطرة بفصم عرى انتماءاتها الوطنية والقومية الحقيقية. أما الثاني، فيعمل على دمج القوميات الناجزة في تكتلات أوسع مع الحفاظ على السيادة والهويات والثقافات الخاصة بكل بلد. إذ نجد في أوروبا، وحتى بين الأوروبيين الديموقراطيين، رغبة في ضم دول أوروبا إلى تكتل أكبر ضمن الاتحاد الأوروبي، من منطلق أن هناك أمر يجمع الأوروبيين أكبر من القوميات الضيقة داخل حدودها؛ وهذا الأمر بحد ذاته "أمر متخيل" يجعلهم يتصرفون باعتبارهم "جماعة متخيلة" واحدة تُتيح للأوروبيين التركيز على المشترك ونبذ المختلف عليه، وتضم إلى اتحادها وحلفها كل من يشترك معها في متخيلها هذا فتعزز من قوتها ونفوذها.

وقد برهنت الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا، هذه الرؤية الاستشراقية، التي لا يمكن للغرب أن يتخلص منها، لأن بينه وبينها علاقة تكوينية. وليس الخطاب الإعلامي الغربي على خروج عن هذه الرؤية، فالجغرافيا المتخيلة ما زالت تحكمه، ولكن بصيغة جديدة متوائمة مع سياقها الأوروبي الذي يجري فيه الصراع هذه المرة بعيداً عن الصراع ما بين "الشرق" و"الغرب"، لتُعدِّل الجغرافيا المتخيلة حدودها على مقياس أوروبا. فالصراعُ بين "نحن" و"هم" هذه المرة داخل "الغربِ" نفسه، وعلى أرضهِ، ولكن ما زال فيه الشرقُ شرقاً والغربُ غرباً. وهنالك "قوميات صالحة" وأخرى "طالحة"، وهذه الأخيرة، "الطالحة"، هي عدوانية، غير مؤمنة بقيم "الليبرالية" و"الحرية"، وفاسدة وبحاجة إلى الإصلاح، ودون ذلك فإنها لن تحصلَ على شهادة "حُسن سير وسلوك" ولن تكون ضمن قائمة "القوميات الصالحة".

ويساهم الإعلام الغربي بقوة ورغبةٍ واضحة وحثيثة، مثلما تفعل قنواتCNN, Fox News ، وصحف Washington Post, The Guardian, Le monde، في التوكيد لفظياً وبصرياً على التهديد الذي تمثله "القومية الطالحة" بقيادة بوتين على قيم الحضارة الغربية وعلى "القومية الصالحة" بقيادة زيلنسكي الذي يقود حرباً بالنيابة وبالوكالة عن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. إذ ليس من قبيل الصدفة، أن تبث وسائل الإعلام صور زيلنسكي وخطاباته من شوارع أوكرانيا، ومن داخل المستشفيات والملاجئ، وتصور الجنود الأوكرانيين باسلين وتجري مقابلات معهم وتُحيي صمودهم في وجه الغازي، مثلما تجري مقابلات مع النسوة العائدات نحو أوكرانيا على الحدود البولندية للقتال إلى جانب رجالهن. فهنا الصورة التي يبثها الإعلام تعني المعنى الذي تحمله ضمناً: يقاتل الأبطال الأوكرانيون من أجل الاستقلال ومن أجل وطنهم ضد هذا العملاق الشرير الذي يريدُ سحق قوميتهم الناشئة. ليُساهم الإعلام الغربي في صناعة الأبطال القوميين الجدد في أوكرانيا، لتدور سردياتهم وذاكرتهم المستقبلية لاحقاً حولهم، ولتعزز قيم انفصالهم عن ماضيهم السوفياتي "سيء الذكر". وما جميع ذلك، إلا جرعة لتعويض النقص لدى الدولة الأوكرانية حديثة النشأة التي تحتاجُ إلى مثل هذه "الجرعة القومية" لمواجهة محاولة ابتلاع "القومية الروسية الطالحة" لها.

مما لا شك فيه أن الإحساس بالهوية والانتماء للجماعة القومية يتعزز عند الأفراد في لحظات الخطر الوجودي، وما تقوم به دول حلف الناتو اليوم هو اللعب على وتر القومية الأوكرانية التي تواجه الخطر الروسي. ولتبدو أوكرانيا اليوم وكأنها تصارعُ من أجل هويتها ومن أجل بقائها كدولة مستقلة، وتُصارعُ من أجل التخلص من بقايا محيط ذاكرتها Milieu de mémoire، المستمد من إرثها السابق المرتبط بالاتحاد السوفياتي، ومن ذاكرة الانقسام العالمي ما بين الكتلة الشرقية والغربية. إذ أن هنالك حاجة للتأكيد على أن الأوكرانيين اليوم يصنعون تاريخهم، تاريخهم الجديد، الذي تعني صناعته إنسجاماً مع التاريخ العالمي الذي يسيرُ كما تجري محاولةُ توصيفه في خطيته الحتمية نحو نهايته ومنتهى تحققه في القيم الغربية لمفهمة ولمعنى التاريخ ولمن يصنعونه.