الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نص من رواية "مليحة" للروائي الفلسطيني محمد البيروتي

2023-03-16 09:44:21 AM
نص من رواية
غلاف الرواية

 

تدوين- نصوص

اخترنا لكم في تدوين نصاً للكاتب والروائي الفلسطيني محمد البيروت، من آخر إصداراته الروائية، "مليحة"، الصادرة عام 2022، عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين ودار الرعاة في فلسطين. 

والبيروتي، هو أسير محرر تعود أصوله إلى قرية صُميل جنوب الخليل، حيث هجر منها العام 1948، واعتقل في العام 1974 وحكم بمؤبدين، قضى منهما 11 عاماً، وخرج في صفقة تبادل للأسرى في العام 1985، وقد صدرت له حتى اللحظة أربعة مؤلفات، هي: "نصب تذكاري 1 و2"، و"الشمس تولد من الجبل"، و"رجالات الصف الرابع"، بالإضافة إلى عمله الخامس، روايته "مليحة".

وفي حفل إشهار الرواية، قال البيروتي إن: "مليحة هي جدته التي عشِقَها، وهي صاحبة الذكرى والأثر الأكبر في حياته لما تمتعت به من أسلوب سلس وحِكَم وأفكار، وأضاف أن روايته تعتمد تكنيك طرح المقارنات باستمرار، لعل أبرزها ما بين مليحة ومريم العذراء فالمعتدي واحد، مشيراً إلى أن الفترة التي دخل فيها السجن كان العالم المحيط لطيفاً منفتحاً على خلاف ما وجده عند خروجه، منوِّهاً أن روايته تتحدَّث عن المخيم ومعاناة اللاجئين مؤكداً أن المعاناة إن لم تبرز بطريقة فنية  شكلية مناسبة فلا قيمة لها."

محمد البيروتي في حفل إشهار روايته

وفيما يلي النص الذي اخترناه من الرواية:

كان سليم قد تعرف مباشرة بعد هزيمة الجيوش العربية في حزيران على الملحق العسكري المصري في السفارة المصرية في عمان مصاحبا ببضعة رجال كانوا من ضمن فدائيي مصطفى حافظ، يلقبونه الصاغ سامي. سيتعرف عليه لاحقا باسم الرائد إبراهيم الدخاخني. من خلال ما قيل له اكتشف سليم إن هذا الضابط يقود عمليات الفدائيين لقوات التحرير التابعة لجيش التحرير الفلسطيني "لواء عين جالوت" إضافة إلى تحركات ضباط وجنود الاستخبارات المصرية في سيناء من خلال مقر عمله في السفارة المصرية في عمان. بالمقابل اكتشف هذا الضابط ان سليم له باع طويلة في مجال العمل الفدائي في سيناء والنقب وقطاع غزة. أثمر هذا الاكتشاف عن شراكة عمل بين ضابط الاستخبارات المصرية وبين سليم.

مصطحبا معه أحد افراد القاعدة وبمباركة من قيادة القطاع، اجتاز سليم برفقة ضابطين مصريين الحدود الأردنية الفلسطينية في منطقة غور الصافي جنوب البحر الميت. إنطلقوا في مسير ليلي نحو سيناء. مرورا بالنقب وغزة، حيث تزودوا بالسلاح من أماكن محددة، كان عليهم جمع المعلومات عن تحركات الجيش الإسرائيلي في النقب وسيناء، والقيام بعمليات قصف للمستوطنات التي أنشأتها إسرائيل في سيناء ونصب الكمائن وغير ذلك. فعالياتهم خلال هذه المرحلة كانت تصل إلى قيادة الجيش المصري المرابط على قناة السويس عبر جهازي اتصال مركزيين مخبأين في أماكن محددة.

ترتّب على أربعتهم بعد انتهاء مهمتهم الانسحاب نحو قناة السويس، رحلة شاقة اجتازوا فيها مسافات شاسعة في سيناء سيرا على الأقدام إلى أن وصلوا الى منطقة تسمى بير العبد، هناك وجدوا بانتظارهم دليلا بدويا من سيناء وخمسة جمال. امتطوها وانطلقوا ناحية الملاحات.

قبل وصولهم ببضعة كيلومترات، نزلوا في واحة صغيرة بها بضعة نخلات وعين ماء نزازة، أخبرهم الدليل أنهم وصلوا مرحلة الخطر القصوى، وعليهم الاستعداد ونصحهم بالاستحمام والصلاة، يعقب سليم على ذلك قائلا:

"مع إنني لم يكن لي سبق عهد بالصلاة، إلا إنني لم أتردد، اغتسلنا وصلينا وملأنا المطرات بالماء. تركنا الجمال خلفنا ومضينا سيرا على الأقدام لاجتياز الملاحات"

الملاحات اسم يطلق على منطقة واسعة تمتد لما يزيد عن خمسة وثلاثين كيلو مترا شرق القناة بمحاذاة البحر المتوسط. لقد كان لهذه المنطقة دور حاسم في حماية شمال القناة ومدينة بور فؤاد من الاحتلال الإسرائيلي، إذ أن اجتيازها سواء بالمشاة أو المركبات غير ممكن. تتكون من سبخات رخوة مليئة بمياه البحر ويعلوها طبقات من الملح، يتطلب اجتيازها سيرا على الأقدام خبرة واسعة، لهذا انضم إلينا الدليل السيناوي.

لإضافة المزيد من العوائق. قام الجيش المصري بزراعة مساحات واسعة منها بالألغام تاركا ممرا واحدا. في الليلة التي تم تحديدها لمرورها عبر جهاز الاتصال، ابتدأ الجيش المصري بإطلاق خطين متوازيين من الرصاص الخطاط "المتوهج" على فترات، كان عليهم المسير بالذات بين هذين الخطين، خارجهما تنتشر الألغام المصرية.

يكمل سليم سرد قصته قائلا:

كان علينا المسير على خطى الدليل تماما، حذرنا من تجاوز خطواته مرارا. مسافة المسير طويلة، والملح يتطاير مع هبات الهواء ليخترق عيوننا وأنوفنا، وعندما اضطررنا للتنفس من أفواهنا، تحولت بدورها إلى مستودع للمح، لم تُجد مطرات الماء المحمولة معنا في ترطيب أفواهنا ولو قليلا.
عندما صرنا في منتصف المسافة تماما، تعرضنا للقصف من موقع إسرائيلي، بدا أ، أشكالنا المعتمة ظهرت جلية على خلفية التماعات الأضواء على الملح الأبيض. وهنا بدأت المدفعية المصرية بدك الموقع الذي أطلق علينا النار إلى أن أخرسته.
عندما اقتربنا من بور فؤاد، وهي المدينة الوحيدة التي احتفظت بها مصر شرق القناة بعد هزيمة حزيران، وجدنا مفرزة عسكرية مصرية بانتظارنا، قال قائدها الصعيدي في جملة واحدة، شحنت معنوياتنا وأنستنا حالة الإرهاق التي غمرتنا "أهلك ولو تهلك". في إشارة إلى أننا جميعا ننتمي الى أمة واحدة، وشعب واحد.

تم فصلنا نحن الفلسطينيين، عن رفاقنا المصريين بما فيهم الدليل. لم نر أيا منهم بعد ذلك. منهكين تماما، حلوقنا جافة وألسنتنا تخرج من أفواهنا كقطع من الحطب الجافة، أحذيتنا امتلأت بالماء وأقدامنا تحترق من الملح. أجلسونا على مقاعد، كنا بانتظار جرعة ماء، هذا كل ما تمنيناه.