الجمعة  23 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

السابع من أكتوبر ... طوفان الوعي| بقلم: ياسر مناع

2025-01-20 08:43:26 AM
السابع من أكتوبر ... طوفان الوعي| بقلم: ياسر مناع

عبر التاريخ، تُسجل الأحداث الكبرى ليس فقط بما تُحدثه من تغييرات على الأرض، بل بما تثيره من تحولات عميقة في وعي الشعوب وطبيعة الصراعات. الهجوم الذي وقع في السابع من أكتوبر لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان لحظة تاريخية فارقة أعادت صياغة المفاهيم السياسية والأمنية التي طالما هيمنت على المشهد الفلسطيني-الإسرائيلي.

منذ النكبة عام 1948، ظلت القضية الفلسطينية تُحصر في إطار معادلات قوى غير متكافئة، حيث تملك إسرائيل التفوق العسكري والتكنولوجي والدعم الدولي بينما يواجه الفلسطينيون مصيرًا محفوفًا بالقمع والتهجير. ومع ذلك، جاء هذا الهجوم ليقلب تلك المعادلات رأسًا على عقب، مُظهرًا أن النضال الفلسطيني تجاوز حدود الدفاع المستميت إلى القدرة على إحداث تغيير في مسار المواجهة.

التحول الفكري والمفاهيمي

منذ عقود طويلة، هيمنت النظريات الأمنية على التصورات الإسرائيلية للمواجهة مع الفلسطينيين. تلك النظريات التي استندت إلى التفوق العسكري والتقنيات المتقدمة والاستراتيجيات الأمنية المحكمة بدت وكأنها قاعدة صلبة لا يمكن اختراقها. ومع ذلك، كشف طوفان الاقصى أن هذه القاعدة ليست سوى وهم قابل للتآكل أمام عزيمة الفلسطيني الذي أثبت قدرته على الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، مغيرًا قواعد اللعبة.

سقوط النظريات الأمنية

إن النظريات الأمنية الإسرائيلية، التي كانت تقوم على استحالة تعرض الداخل الإسرائيلي لأي تهديد جدي من الداخل الفلسطيني، قد تعرضت لضربة قاصمة. لقد أثبت الهجوم أن التفوق العسكري لا يكفي لحماية الدول إذا كانت تعتمد فقط على القوة المادية. بل إن الأحداث أكدت أن الفلسطينيين قادرون على إعادة تعريف مفهوم النصر بعيدًا عن المفاهيم التقليدية للقوة المتكافئة. هذه النقطة تسلط الضوء على أهمية الإيمان بالحق والقدرة على تحويل المبادئ إلى فعل ميداني.

على مر العقود، كانت إسرائيل تعتمد على قوتها العسكرية كوسيلة لإحكام السيطرة وإخضاع الفلسطينيين، متناسية أن الوعي الإنساني قادر على تحدي القوة العسكرية مهما بلغت. وبفضل التطورات الأخيرة، أصبح من الواضح أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي فعل فكري وثقافي يعيد تعريف معاني النصر والهزيمة.

كسر مبدأ السجن المؤبد

تعد قضية الأسرى الفلسطينيين من أبرز أدوات الاحتلال الإسرائيلي في قمع النضال الفلسطيني. حيث يقبع أكثر من 600 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية محكوم عليهم بالسجن المؤبد. لطالما استُخدمت هذه الأحكام كأداة لترسيخ الهيمنة وكسر الروح النضالية، إلا أن صفقات تبادل الأسرى المتكررة أثبتت هشاشة هذا المبدأ الاستعماري. إن نجاح الفلسطينيين في تحرير الأسرى عبر هذه الصفقات يؤكد أن السجن المؤبد ليس نهاية المطاف، وأن الإرادة الشعبية قادرة على كسر قيود الاحتلال. تاريخيًا، كان الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على نظام السجن كوسيلة لترويع المجتمع الفلسطيني وإحباط طموحاته النضالية.

لا نكبة ولا تهجير بعد اليوم

منذ بدء حرب الإبادة، رفعت إسرائيل شعار التهجير إلى سيناء. شكل التهجير القسري أحد أبرز الوسائل الاستعمارية لتغيير الواقع الديمغرافي في فلسطين، وفي سياق الحرب تهجير سكان قطاع غزة. إلا أن الوعي الفلسطيني المتزايد وصموده قد أحبط محاولات الاحتلال المستمرة لإعادة إنتاج النكبة. الفلسطيني اليوم أكثر إصرارًا على البقاء في أرضه، مما يشكل تحولًا نوعيًا في مواجهة سياسات التهجير. هذه النقطة تعكس طوفانًا فكريًا يعيد تعريف العلاقة بين الفلسطيني وأرضه.

إن الفلسطينيين باتوا يدركون اليوم أن وجودهم في أرضهم هو أكبر تحدٍّ لسياسات الاحتلال. هذه الاستراتيجية تعكس تحولًا في وعي الفلسطيني من كونه مجرد ضحية للنكبة إلى كونه فاعلًا يفرض معادلات جديدة.

إسرائيل: دولة إبادة وليست ديمقراطية

لطالما سعت إسرائيل إلى تصدير نفسها كواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، إلا أن الصورة التي أفرزتها الأحداث الأخيرة تنسف هذا الادعاء. لقد كشفت السياسات الإسرائيلية عن طبيعة إبادية تتناقض مع أي مفهوم حقيقي للديمقراطية. إن المشاهد التي وثقت جرائم الاحتلال وانتشرت على نطاق واسع عالميًا تسببت في تراجع الدعم الدولي لإسرائيل، ودفعت العديد من الشعوب لإعادة النظر في طبيعة هذا الكيان.

إن سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل تتناقض مع القيم الإنسانية العالمية. هذه السياسات لا تقتصر فقط على القتل والتدمير، بل تمتد إلى محاولات طمس الهوية الفلسطينية بكل أبعادها. لكن مع ذلك، بات العالم اليوم أكثر وعيًا بهذه الحقائق، مما يشكل تحديًا للهيمنة الإسرائيلية على السردية الدولية.

الطوفان الفكري الفلسطيني

لا يمكن فهم التحولات التي أحدثها السابع من أكتوبر دون الإشارة إلى طوفان الوعي الذي بات أكثر قوة ووضوحًا. إن هذا الوعي الفلسطيني يشكل تحديًا جوهريًا للاحتلال الإسرائيلي، حيث يعيد صياغة معادلات الصراع من الداخل. إن الفلسطينيين اليوم باتوا يدركون أن النضال لا يقتصر فقط على الميدان، بل يمتد إلى الوعي الجماعي الذي يشكل اللبنة الأساسية لأي تغيير.

هذا الطوفان الفكري يتجلى في قدرة الفلسطينيين على بناء سرديات جديدة تتحدى الرواية الإسرائيلية. إنهم لا يكتفون بالمقاومة الميدانية، بل يعملون على تعزيز وجودهم الثقافي والسياسي على المستوى الدولي، مما يوسع نطاق التأثير الفلسطيني عالميًا.

الوعي الإسرائيلي بعجز الهزيمة

مع مرور الحرب، بدأ يتسرب إلى داخل المجتمع الإسرائيلي وعي متزايد بعجز القوة العسكرية والتقنيات الأمنية المتطورة عن تحقيق انتصار حاسم على الفلسطينيين. هذا الوعي، الذي تعزز بعد السابع من أكتوبر، أظهر أن الإرادة الفلسطينية لا يمكن كسرها مهما بلغت شدة القمع.

إن سلسلة من الأحداث والتجارب الميدانية أكدت للإسرائيليين أن الفلسطينيين لا يواجهون الاحتلال فقط من منطلق المقاومة المسلحة، بل يمتلكون رؤية طويلة الأمد تُبقي جذوة النضال مشتعلة. هذا الإدراك الجديد يُقلق النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية، حيث إنه يهدد فكرة السيطرة المطلقة ويعيد تشكيل تصوراتهم عن الصراع.

ما يفاقم هذا الوعي هو فشل إسرائيل في القضاء على الروح الجماعية الفلسطينية، سواء من خلال سياسات الحصار أو الاستيطان أو التهجير. في كل مرة كانت تُستخدم فيها القوة المفرطة، كانت المقاومة الفلسطينية تُظهر قدرتها على النهوض مجددًا، مما يترك انطباعًا دائمًا لدى الإسرائيليين بأن النصر الكامل مستحيل.