الخميس  01 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نعرفهُم ولا ننصفُهم| بقلم: عبد الله لحلوح

2025-05-01 04:06:45 PM
نعرفهُم ولا ننصفُهم| بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

جنودٌ مجهولون، بل شعراءٌ مغمورون، يتداعوْن صباحًا قبل أن تغادر الطيور أعشاشها، فلهم تغريداتهم الخاصة، وأنغامهم التي يطلقونها فجرًا ببحةِ الحادي المحترف، يحملون أُسَرَهم على أكتافهم التي أرهقتها الأثقال المادية والمعنوية، فيحتالون على المصاب بقليلٍ من الأمل، وكثيرٍ من العمل، لعلَّ أحدهم يعود مساءً وقد تمكن من إحضارِ قطعةِ حلوى لطفلٍ لا يعرفُ من والده سوى تلك الملابس المتّسخة ببقايا الباطون والإسمنت والدهان وما تلاها من بقايا، لتظلَّ شاهدةً على ذلك التعب الذي يتحمله العامل، وهو يقصُّ الوقتَ ببلطةٍ، أو شاكوشٍ، أو طوريّة، أو ما شابه من تلك الآلاتِ التي بدأت أسماؤها العربية تذوب، وقد سالت عليها مياهُ لغةِ العابرين.

في اليوم الذهبي للعمال، يأخذ كل المرفّهين إجازة عمل إلا الذين يستحقونها، فتجدهم على رأسِ العمل أو قلبِه، يواصلون السعيَ إن استطاعوا لذلك سبيلا، والأغلب أنهم لا يستطيعون في ظلِّ تضييق الخناق الذي فرضه الحريصون على حياة، فحياةُ واحدهم أهمُّ من حياةِ مئات الآلافِ من الجيوشِ التي لا تسعى سوى لانتصارٍ لحظيٍّ على الجوع، فلا تسعفهم اللحظة، ولا ينصفهم أبناءُ جلدتهم، وإذا ما سمعتَ عن عاملٍ يعملُ عند مُشغِّلٍ وطنيٍّ من أبناءِ الوطن الذين يبنونه طوبة طوبة، فتأكدْ أنَّ على قلبه رطوبة،  حيث سيعمل ذلك العامل عنده تحت المنِّ والأذى، وسيسمع ما لا يُسمع من الإهانات، وسيقول في النهاية: بدنا نشتغل، بعين الله. وهذا حال عمّالنا الذين كان أحسنهم حظًّا من استطاع إيجاد عملٍ بربع القيمة أو خمسها، المهم أنه يحرّكُ عظامه، ويوهم نفسه وقبيلته وأبناءَه وزوجته بأنه يعمل، ولا يلتفت أحدٌ إلى المعاناةِ التي يلقاها لدى صيّادي الفُرَص، الذين تكون شباكهم جاهزةً دائمًا لصيدٍ ثمين، فقطاع البناء مثلًا، يستوعبُ كثيرًا من الأيدي العاملة، ولأنّ الأيدي كلّها أو معظمها توقفت عن العمل في الداخل المحتل، فقد صار لزامًا عليها أن تصافح قلوبَ  المقاولين هنا، وهنا يبدأ التبخيس، والتذمر والبيانات المنددة بحالة الركود: "فش بيع، الشقق فاضية، ما حدا بشتري، الأسعار نازلة" ومن هذه الأسطوانات المكرورة، حتى يستسلم العامل أو معلّم البناء ومن يعمل في مثل هذه المهَن التي صارت تُهانُ وتُمتَهَن، ولربما فكّرَ عاملٌ بسيطٌ بريءٌ بإحضارِ وجبة إفطارٍ لصاحب المشروع الذي ينفق عليه ملايين ليدرَّ عليه ملايين مضاعفة، ومع ذلك يظلُّ في تذمُّرٍ مستمر، وإن ذهبتَ، وكلكم جرَّب أن يشتري بيتًا ( شقة) وهناك ترى أنّه لا نزول في الأسعار، ولا هبوطَ في وضع العقار، ولن ترى سوى عاملٍ يقارعُ ويكافحُ بعينين شبه نائمتين، وبوجهٍ جافٍّ لا ماءَ فيه سوى ماء الكرامة. 

في يوم العمال، يقف العامل الفلسطيني وحيدًا عنيدًا صامدًا صابرًا دون مقومات للصبر، لعلَّ الله يُحدثُ بعد ذلك أمرًا، وإلى أن يحدث ذلك، فإنه من الواجبِ أن يسعى أهلُ الواجب لإنصافهم، فعلى الحكومةِ أن تجدَ حلولًا، أو أن تبتكرَ بعبقريةٍ ما طُرُقًا لردِّ كرامةِ العامل، وأن تحتفي به فعلًا لا قولًا، وأضعف الإيمان أن تلتفتَ لاحتياجاته ما دون الأساسية بقليل، كالتأمين الصحي والتعليم المجاني لأبنائه، وتوفير بطاقات اجتماعية تضمن على الأقل كفالةً من الموتِ جوعًا، أو الاتجاه نحو عالمٍ مجهولٍ لا يعلم خباياه إلا الله، وعلى الجهات الرسمية ذات العلاقة أن تضمن للعامل الحقَّ الأساسي الذي أقرّته الدولة بالحد الأدنى للأجور، وألا تسمح للمتغوّلين المخمليّين بامتصاص دمِه كعلقةٍ جائعةٍ في يدِ حلّاقِ القريةِ القديم، وهذا ما يحصل في هذه الأيام تمامًا، ولو سألتَ أيَّ عاملٍ لقال لك: إننا نُؤكل لحمًا وعظمًا، في الوقت الذي لا نجدُ فيه العظم لنطعمَ أولادَنا، وهذا ما سمعته صباحًا على راديو أجيال، إذ لفت انتباهي الصوت المميز للناشط الفيسبوكي  الخليليّ حسن مسالمة في مقابلةٍ مع مذيعة أجيال، وهو يبثُّ أحزان العمال، ويكشف عن صنوفٍ من القهرِ والإذلال التي  يتعرضُ لها العمال والعاملات، وهو ينقل تجارب من الواقع المعيش:" بتيجي عندي نسوان مع أولادهم، دبرلنا شغل يا حسن، بدنا نعيش، فش بالدار أكل، جوزي مريض وعيان سكري وضغط، وما حدا بدوّر علينا" وهذا يعني أنّ ربّات البيوت صرنَ يبحثن عن عملٍ في المطاعم والشوارع والمحلات والمقاهي، وهذا ما دفع المذيعة لسؤالٍ جديد: كم بدفعوا لهؤلاء النسوة؟ ليرد حسن: إنّ أصحاب المطاعم يدفعون (600-700 شيقل) شهريًّا، مقابل 8-9 ساعات عمل يوميًّا، وهذا بحدِّ ذاته ليس مهمًّا مقابل التهديد والوعيد:" إذا بتحكي لنقابة العمال أو أي جهة مسؤولة إنك بتوخذي هيك بنطردك. قولي راتبي 1500 شيقل" لا أعرف بالضبط ماذا يمكن أن نسمي هذا التصرف، أهو السرقة، أم اغتصاب العقل، أم الحرام المحلّل، فالتسمية الحقيقية هي عند أصحاب القرار، وليكن يوم العامل الفلسطيني يومًا محفوفًا بتقدير العمال، وإنصافهم بما يستحقون، فلا يكفي أن نعرفَهم، بل يجب أن ننصفَهم.