خاص الحدث
تفاقمت أزمة البلديات والحكومة الفلسطينية، في ظل سعي الأخيرة لتحصيل الديون التي اقتطعت منها من أموال المقاصة مقابل ديون على شركات الكهرباء التي تديرها هذه البلديات، وعلى وجه التحديد شركة كهرباء الخليل. بلدية الخليل والتي تطالبها الحكومة بسداد مبلغ 470 مليون شيقل، صرح رئيسها تيسير أبو سنينة بأن هذا "مبلغ كبير تراكم على مدار عشرات السنوات ولا يمكن للبلدية تصفيته دفعة واحدة في ظل الظروف المالية الصعبة"، وأوضح أن الحكومة تطالب بمبالغ سبق أن دفعتها نيابة عن الشركة من أموال المقاصة، لكنها في الوقت نفسه تماطل في إجراء مقاصة لتعويض البلدية بما لها من ضرائب ورسوم متراكمة، ومن وجهة نظره فإنه يجب معاملة ملف كهرباء الخليل وملف البلدية المالي كملف واحد، نظراً لكون الشركة مملوكة للبلدية، مع تأكيده على أن شركة كهرباء الخليل مملوكة بالكامل للبلدية، وأن ديون الشركة وحجمها الضخم يعود إلى تراكمات تمتد لسنوات طويلة.
لفهم أشمل للقضية من المهم الإشارة إلى أن هذه الشركات تشتري الكهرباء من الإسرائيليين، وتقوم ببيعها للبلدية التي تبيعها للمواطنين، أو أن الشركة نفسها مملوكة للبلدية كما في حالة بلدية الخليل، ويقتطع الإسرائيليون الديون التي تتراكم على الشركات من أموال المقاصة التي تحوّلها للسلطة الفلسطينية، بينما تعاني البلديات من عجز في هذا المجال بسبب الديون المتراكمة على المواطنين. الحكومة طالبت البلديات بالاقتراض من البنوك وهو ما رفضته البلديات في بيان صحفي حمل اسم نقابات بلديات الخليل وجاء فيه أن "النقابات تتابع بقلق بالغ ما تتعرض له البلديات من ضغوط متزايدة من قبل الحكومة، لا سيما فيما يتعلق بأزمة شركات الكهرباء، وتداعياتها الخطيرة على أداء البلديات وقدرتها على الاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين".
وفي هذا السياق، أكدت نقابات البلديات على رفضها المطلق لتحميل البلديات أعباء مالية تراكمت عبر عقود من الزمن، كما رفضت بشكل قاطع أي محاولات لفرض خيار اللجوء إلى القروض المالية كحل لتلك الأزمات، لما لذلك من انعكاسات سلبية على مستقبل البلديات واستقرارها المالي. وشددت على أن الموقف المنتظر من الحكومة الفلسطينية هو توفير التمويل والدعم المناسب للبلديات، لتعزيز قدرتها على الصمود والاستمرار في تقديم الخدمات، لا العكس من ذلك عبر تحميلها أعباء إضافية أو مطالبتها بتمويل الحكومة من مواردها المحدودة. وأوضحت أن شركات الكهرباء العاملة في المحافظة تعود ملكيتها للبلديات، وهي ثمرة جهد وعمل مستمر على مدار سنوات طويلة، تم خلالها تطوير هذا القطاع الحيوي وتوسيع خدماته لخدمة المواطنين. وعليه، فإن الحفاظ على مقدرات هذا القطاع وتطويره يجب أن يكون أولوية لدى الحكومة، لا أن يتحول إلى عبء يُحمّل للبلديات ويهدد استقرارها.
ورفضت النقابات تحميل البلديات مسؤولية ديون شركات الكهرباء، محملة الحكومة الفلسطينية كامل المسؤولية عن هذا الملف، نتيجة سنوات طويلة من غياب التنظيم والرقابة. وأكدت على أن البلديات مؤسسات خدماتية وطنية، دورها يتمثل في خدمة المواطنين، وليس إنقاذ الحكومة على حساب مواردها وإمكاناتها. وحذرت من المساس بموازنات البلديات أو مستحقاتها المالية، والتأكيد على أن استمرار هذا النهج سيؤدي حتماً إلى تراجع الخدمات الأساسية للمواطنين. وطالبت بحل شركات الكهرباء وإعادة تبعيتها للبلديات، بما يضمن الشفافية ويعزز الرقابة المجتمعية على هذا القطاع الحيوي. ورفضت أي توجه حكومي لإجبار البلديات على الاستدانة أو أخذ قروض، لما لذلك من تأثيرات مدمرة على الحاضر والمستقبل المالي للهيئات المحلية. ودعت كافة مكونات المجتمع المحلي للوقوف صفاً واحداً في مواجهة هذه السياسات المجحفة التي تهدد كيان البلديات واستقلاليتها. كما ورفضت القرارات الحكومية الأخيرة المتعلقة بموازنات البلديات، والتي صدرت دون أي تشاور مسبق مع الهيئات المحلية، في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة. وأعلنت رفضها القاطع لتحويل ملف الكهرباء –خاصة في البلديات التي تتعامل مباشرة مع الشركة القطرية للنقل والتوزيع– إلى هذه الشركة، نظرًا لعدم قدرتها على تلبية احتياجات البلديات من الطاقة الكهربائية، إضافة إلى اشتراطها تقديم كفالة مالية تعادل ثلاث فواتير مقدمة مسبقاً، وهو أمر غير واقعي ويزيد العبء المالي على البلديات دون أي ضمان لتحسين الخدمة أو استقرار التزويد.
وبحسب رسائل من وزارة الاقتصاد وسجل الشركات فإن هناك مخالفات إدارية في شركات كهرباء الخليل والجنوب، ما دفع الحكومة – عبر هيئة مكافحة الفساد – إلى مطالبة مجالس إدارتها بإعادة الأموال المصروفة دون وجه حق وحذرت من المساءلة القانونية. وأرسلت هيئة مكافحة الفساد ووزارة الاقتصاد كتباً تحذيرية عاجلة لمجالس إدارة شركتي كهرباء الخليل والجنوب لوقف أي صرف غير قانوني للمبالغ المالية للبلديات، وأمهلتها 14 يوماً (حتى 23/4/2025) لتصويب أوضاعها وتقديم القوائم المالية والتقارير المحاسبية للسنة المالية 2024. وفي حالة عدم الالتزام، حدد قانون الشركات إجراءات فصل رؤساء مجالس الإدارة مؤقتاً. هذه الخطوة الحكومية هدفت إلى الحفاظ على الاستقلال المالي والإداري للشركتين، لكنها أثارت بدورها قلقاً من تأثيرها على رواتب البلديات التي تعتمد على هذه السيولة (خاصة أن البلدية كانت تسحب لسداد الرواتب على حساب الكهرباء منذ سنوات).
أزمة المديونية المتبادلة
تواجه البلديات الفلسطينية تحديات مالية كبيرة تتمثل بتراكم الديون المستحقة عليها. في أبريل 2025، صادق مجلس الوزراء الفلسطيني على تسوية مالية لتثبيت مديونية 46 هيئة محلية (بلديات ومجالس محلية) بلغت حوالي 400 مليون شيقل (من فواتير الكهرباء والماء) حتى 30/6/2024. ويأتي ذلك ضمن جهود الحكومة لمعالجة قضية صافي الإقراض وتحسين الحوكمة المالية للسلطات المحلية، بحسب ما جاء في قرارها. تتضمن الديون المتراكمة على البلديات مبالغ كبيرة تخص خدمات الكهرباء ومياه الشرب. فقد بلغ إجمالي الديون المترتبة على البلديات تجاه شركات الكهرباء والماء نحو 400 مليون شيقل حتى منتصف 2024 (كما أثبتته التسوية الحكومية السابقة). ولا تصدر عادة أرقام منفصلة عن الكهرباء فقط، لكن يُفهم أن الجزء الأكبر من هذا المبلغ يعود إلى شركات الكهرباء لارتفاع فاتورة استهلاك البلديات (خاصةً في المدن الكبيرة) مقارنةً بقطاع المياه.
في المقابل، تشير التحليلات إلى أن حجم المتأخرات (المديونيات) على عاتق الحكومة الفلسطينية يقدر بنحو 14–15 مليار شيقل. ويشمل هذا المبلغ التزامات الحكومة تجاه البلديات، ولا سيما حصص البلديات من الضرائب المحلية والرسوم التي تجمعها السلطة نيابة عنها. فقد لوحظ أن الحكومة كانت تحتفظ بنسبة كبيرة من ضريبة الأملاك (90%) وتخصص للبلديات 10% فقط، مما يفاقم عجز البلديات المالي ويخلق خللاً في توزيع إيرادات الجباية. كما تؤدي سياسات الاحتلال إلى زيادة الضغط المالي: فإسرائيل تقترض (تقتطع) أموال البلديات غير المسددة (مثل فواتير الكهرباء والماء المتراكمة) من أموال المقاصة، وهو ما يعود بالضرر على موازنات البلديات.
وتعزى أسباب تراكم الديون إلى ضعف الإيرادات المحلية، حيث تفتقر البلديات إلى مصادر دخل ذاتية كافية، وتعتمد على الإعانات الحكومية. كما أن صعوبة تحصيل ضرائبها المحلية (مثل ضريبة الأملاك وضرائب الإعلانات) تزيد من عجز موازنتها. وكذلك وجود نظام ضريبي غير عادل، إذ تحجز الحكومة الفلسطينية حصصاً كبيرة من عائدات الضرائب التي تجمعها للبلديات. فقد كان يجري اقتطاع 90% من ضريبة الأملاك لصالح السلطة (مقابل 10% فقط للبلديات)، مما يثقل كاهل البلديات مالياً ويفاقم مديونيتها. وأيضا احتجاز عائدات ومستحقات البلديات؛ يُمارس الاحتلال الإسرائيلي خصومات مباشرة على أموال المقاصة لتعويض أي فواتير كهرباء أو مياه لم تسددها البلديات. فدولة الاحتلال بدأت تقتطع من العوائد المتأخرة (مقاصة) قيمة فواتير الكهرباء والماء غير المدفوعة، وهو ما يحرم البلديات من مواردها ويزيد من أعبائها.
يضاف إلى ما سبق، تأخر التحويلات الحكومية بسبب العجز المالي، حيث تؤخر السلطة تحويل مبالغ مالية مستحقة للبلديات (مثل موازنات دعم المشاريع ودفع التراخيص). وهذا يمنع البلديات من تغطية مصاريفها التشغيلية وتراكم عجزها المالي. أحد الأسباب هو ارتفاع تكلفة الدين والفوائد، فقد اعتمدت الحكومة الفلسطينية بشدة على الاقتراض لسداد العجز (مع فائدة عالية)، فتراكمت التزامات الفوائد على الخزينة العامة وخفَّضت قدرة الحكومة على دعم البلديات مالياً. وأيضا، مشكلات تنظيمية وتقنية: أدى تعدد نقاط الربط الكهربائي في الضفة إلى تعقيد تتبع فواتير الكهرباء والتحصيل من قبل السلطة. كما أدت النفقات غير الكفؤة والفساد الإداري إلى تفاقم الأزمة، في ظل غياب إصلاح مالي حقيقي وتحسين حوكمة النظام الضريبي والمصرفي.
تُظهِر هذه الأسباب معاً أن أزمة مديونية البلديات الفلسطينية ناجمة عن تداخل عوامل مالية داخلية (مثل نقص الإيرادات وسوء إدارة الموارد) وخارجية (مثل سياسات الاحتلال وخصوماته). ومع تنامي هذه المتأخرات منذ سنوات، صرحت الحكومة بتكثيف جهودها لإيجاد حلول جزئية كالتسويات المالية والانتقال إلى مصادر طاقة بديلة، لتحسين الوضع المالي للبلديات، ولضمان استدامة خدماتها للسكان.
الطاقة الشمسية.. حلّ للخروج من الأزمة
تتفق دراسات عدة على أن الطاقة الشمسية تمثّل حلا يمكن وصفه بـ"المثالي" في سبيل حلّ هذه الأزمة. إذ يمكن القيام بذلك من خلال الشراكة مع شركات الكهرباء والقطاع الخاص، أي استثمار خبرات وشبكات شركات الكهرباء القائمة، ويُمكن توقيع عقود مع شركات التوزيع المحلية لتركيب ألواح شمسية على مباني وشوارع البلديات. كما يمكن إشراك شركات طاقة متجددة خاصة للحصول على تمويل وتصميم وتشغيل المحطات. وكذلك الاهتمام بفكرة التمويل المشترك والدعم الدولي من خلال الاستفادة من القروض والمنح الميسرة عبر صندوق البلديات (MDLF)، والجهات المانحة (UNDP وغيرها). وقد أظهرت تجربة مشروع عرابة نجاح الشراكة بين وزارة الحكم المحلي وشركة "قدرة" وUNDP في تمويل محطة شمسية. كما يُمكن للحكومة الفلسطينية تخصيص حوافز مالية (حسومات أو دعم جزئي) لمشاريع الطاقة الشمسية البلدية.
ويمكن كذلك تطوير تشريعات تسمح بالربط الشبكي للطاقة الشمسية بحيث يمكن للمشروعات البلدية بيع الفائض للطاقة. كما يمكن تعديل التعرفة الكهربائية للإنتاج الذاتي وتشجيع بناء أنظمة إنارة شمسية في الشوارع العامة، وتسهيل إجراءات الترخيص وتقليص الرسوم على استيراد الألواح والمعدات سيخفض كلفة المشاريع، والتوسع التدريجي في استخدام الطاقة الشمسية بدءاً من المباني البلدية الرئيسية ومحطات المياه وصالات الرياضة والمدارس التي تديرها البلدية، ثم الانتقال إلى مشاريع أكبر. بهذه الإجراءات، تؤكد عدة دراسات أنه يمكن جعل مشروعات الطاقة المتجددة جزءاً من الهيكل المالي للبلدية، حيث تحوّل إلى أصول منتجة للطاقة والدخل بدلاً من بند تكاليف ثابتة. ومع تكرار هذه التجارب وتراكم الوفورات، ستساهم مبالغ توفير الطاقة في خفض حجم الديون المترتبة على البلديات، بما يعزز استدامة خدماتها العامة وينهض بواقعها المالي.
إن حقيقة كون الطاقة الشمسية حلا حقيقيا للأزمة، تكشف عنها توصيات مؤسسات دولية كما ورد في تقرير البنك الدولي لعام 2023 والذي أوصى بتعزيز مشاريع الطاقة المتجددة في فلسطين لتقليص العجز المالي الناتج عن استيراد الكهرباء. وأكد التقرير أن زيادة توليد الكهرباء محلياً من مصادر شمسية خاصة سيسهم في تخفيف الاقتطاعات الإسرائيلية وآثارها على الموازنة العامة. أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) فقد أشار إلى أن دراسات ومشاريع التمكين البلدي التي ينفذها البرنامج والاستثمار في الطاقة الشمسية يعزّز الإيرادات المحلية ويخفض تكاليف الخدمات البلدية. فقد ركّزت مشاريع "المدن الخضراء" على توفير توليد للطاقة باستخدام الألواح الضوئية كحل مستدام لمعالجة النقص المالي المزمن عند البلديات نتيجة الاقتطاعات. وقد نفّذت عدة مؤسسات دولية برامج إرشادية لتشجيع البلديات على اعتماد الطاقة الشمسية. وجاء في هذه التوجيهات أن المشاريع الشمسية في مرافق المياه والإنارة العامة تعالج جزئياً مشكلة الديون المتراكمة، ما يساعد في التقليل من الاعتماد على مخصصات المقاصة ووظيفتها الضاغطة مالياً.