الحدث الإسرائيلي
تحت غطاء إعلان بسيط نُشر في آذار/مارس الماضي، رصدت صحيفة هآرتس العبرية ما وصفته بمؤشرات لعملية غير اعتيادية: شركة خاصة تُدعى SRS، لا يعرفها أحد في مجال العمل الإنساني، أعلنت نيتها العمل في قطاع غزة بالتنسيق مع جيش الاحتلال، بهدف إقامة نقطة لتوزيع المساعدات. الإعلان تضمّن تفاصيل أولية حول ساعات التشغيل والموقع، مع الإشارة إلى أن الشركة تم اختيارها من قبل “الدول الوسيطة” في إطار جهود التهدئة. غير أن ما أثار الريبة – بحسب هآرتس – لم يكن مضمون الإعلان بحد ذاته، بل ظهور اسم شركة مجهولة تمامًا، لا تمتلك سجلًا في هذا المجال، ما دفع منظمات الإغاثة الدولية إلى التشكيك في خلفياتها ودوافع إدخالها على هذا الملف الحساس.
وفي تسلسل زمني رصدته “هآرتس”، فقد جاء الإعلان في وقت متزامن مع مرحلة متوقعة من صفقة تبادل أسرى، قبل أن تعود حكومة الاحتلال لاستئناف عملياتها العسكرية في 18 مارس. ومع ذلك، ظلت خطط توزيع المساعدات قائمة، بل تزايد الغموض حول الشركة إلى حد أن مسؤولين أمنيين سابقين في منظومة الاحتلال أعربوا عن دهشتهم من أن الاختيار جرى دون علمهم، ما يوحي – وفق الصحيفة – بوجود ترتيب سري خارج الأطر المؤسسية المعروفة.
وتكشف “هآرتس” أن العملية جرت دون مناقصة أو إعفاء قانوني، بل دون إشراك “منسق أعمال الحكومة” في الأراضي المحتلة أو الجيش أو وزارة الحرب، حيث تولى الإشراف المباشر على العملية رومان غوفمان، السكرتير العسكري لرئيس حكومة الاحتلال. وتشير الصحيفة إلى أن ما بات يُعرف بـ”فريق غوفمان” – المؤلف من رجال أعمال وضباط احتياط – هو من قرر اختيار الشركة، في تجاوز كامل للجهات المعنية.
وبحسب تحقيق “هآرتس”، فقد عقد الفريق اجتماعات داخلية وخارجية مع ممثلي الشركة، وجرى تحويل أموال بملايين الشواقل دون إشراف رسمي. مصادر أمنية أعربت للصحيفة عن مخاوف من وجود مصالح شخصية مموّهة خلف هذه الترتيبات، مشيرة إلى أن اسم رجل الأعمال شلومي فوغل – المقرب من نتنياهو – تكرر في النقاشات، رغم نفيه وجود أي علاقة مباشرة.
وتضيف “هآرتس” أن شركة SRS تُدار من قبل مسؤولين سابقين في وكالة الاستخبارات الأمريكية، أبرزهم فيل رايلي، وتعمل تحت أسماء متعددة، بينها Orbis وSolutions-UG. هذه الأسماء تنشط كذلك في تأمين طريق نيتساريم بغزة، وتقوم بتجنيد عناصر أمنية – خاصة من خلفيات عربية – بمهام مزدوجة توصف بأنها إنسانية وأمنية.
وكان وزير الحرب السابق يوآف غالانت قد تلقى، وفق ما نشرته “هآرتس”، عروضًا من شركات أخرى، بينها شركة يمتلكها موتي كاهانا، الناشط في سوريا والعراق. وقد وافق غالانت على تجربة ميدانية صغيرة في بيت حانون وبيت لاهيا، قبل أن يُجمّد المشروع فجأة، لتتجه الأنظار لاحقًا نحو أوربس.
وفي متابعة الصحيفة لمسار الأحداث، تبين أن الإشراف على الملف انتقل لمكتب رئيس حكومة الاحتلال بعد إقالة غالانت وتعيين يسرائيل كاتس، وتولي غوفمان منصب السكرتير العسكري. وتحوّل فريقه إلى جهة تنفيذية حصرية، دون علم الجيش أو الشاباك، وهو ما توضح من إرسال أحد أعضائه – ليران تانكمان – إلى الولايات المتحدة للقاء ممثلي الشركة، دون تنسيق أمني.
وتنقل “هآرتس” أن هذه الشركة تلقت مبلغًا قيمته ثلاثة ملايين شيقل لإعداد عرض تقديمي، قبل حتى أن يتم اختيارها رسميًا أو طرح أي بدائل. وحين وصل طاقمها إلى غزة، لم يكن يرتدي زيًا موحدًا، ما اضطر ضباطًا من الشاباك وجيش الاحتلال إلى تزويدهم بالملابس من السوق المحلي.
أكثر ما يثير القلق، وفق رواية “هآرتس”، أن أفراد الطاقم لم يخضعوا لأي فحص أمني من الشاباك، بل لم يتم التحقق من خلفياتهم أو مصادر تمويلهم، رغم وجود عناصر أجنبية بينهم. ويقدر حجم التمويل المتوقع للشركة بنحو 200 مليون دولار خلال ستة أشهر، دون أي رقابة فعلية، في ظل تعتيم مقصود على طبيعة الصندوق الداعم للمشروع.
وتختتم “هآرتس” عرضها بالإشارة إلى ما يُسمى “صندوق غزة للمساعدات”، المسجل في سويسرا، والذي يُروّج له على أنه شراكة إسرائيلية-أمريكية، يضم ضباطًا سابقين في وحدات خاصة. لكن الواقع أن هذا الكيان لا يحظى بأي اعتراف من الأمم المتحدة أو منظمات الإغاثة الكبرى، التي تشكك في نواياه وجدواه.
وسط هذا الغموض، تسود قناعة متزايدة، وفقًا لـ”هآرتس”، بأن المشروع ليس إلا واجهة لتشابك المصالح الشخصية والاعتبارات الأمنية، وسط أزمة إنسانية خانقة في القطاع، وسعي واضح من حكومة الاحتلال لتفادي الضغط الدولي، مع الإبقاء على السيطرة الميدانية الكاملة عبر أدوات تجارية خاصة.