الحدث العربي الدولي
في سابقة إعلامية لافتة، خصّصت مجلة نيويورك ماغازين، إحدى أبرز المجلات الأمريكية وأكثرها انتشارًا، غلافها الرئيسي لتقرير مطوّل يتّهم "إسرائيل" بارتكاب مئات، وربما آلاف، من جرائم الحرب في قطاع غزة"، وذلك بدعم مباشر من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء في عهد ترامب أو بايدن، وفق ما ورد في العنوان الفرعي للتقرير الذي جاء تحت عنوان: "جرائم القرن".
التحقيق الذي أعدّته الصحفية سوزي هانسن وامتدّ على أكثر من 10 آلاف كلمة، وصف الحرب الإسرائيلية الجارية بأنها "غير مسبوقة من حيث شدة الإبادة والرغبة في المحو"، مشيرة إلى أن ما يجري "يتجاوز كل مقاييس القانون الدولي إلى حدّ أصبح فيه مصطلح 'جريمة حرب' عاجزًا عن وصف الواقع". وكتبت رئيسة تحرير المجلة في افتتاحية التقرير: "لقد أصبح العالم أكثر همجية وبوتيرة أسرع مما كنّا نتخيل".
يعرض التقرير سلسلة من الشهادات والبيانات والتوثيقات، كثير منها نقله باحثون ومسؤولون سابقون وأطباء وعاملون في المجال الإنساني، تُظهر نمطًا من "تجاوز الخطوط الحمراء"، كقنص رؤوس أطفال، وإحراق صحفيين وهم أحياء، واكتشاف مقابر جماعية تضم فرق إغاثة دُفنت مع سيارات الإسعاف، إضافة إلى قصف مناطق كانت مصنفة كمناطق آمنة أثناء فرار سكانها الجائعين، في عمليات برية وصفتها المجلة بأنها "تفتقر لأي اعتبارات أخلاقية وتُنفذ بأقصى درجات التدمير".
التقرير لا يكتفي بشهادات الضحايا، بل يستعرض أيضًا أقوالًا صادمة لشخصيات إسرائيلية بارزة، بينها رئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمرت، الذي قال للمجلة: "ما نقوم به في غزة هو حرب إبادة: قتل مدنيين دون تمييز، بلا حدود، بوحشية وإجرام. إنها سياسة حكومية – عن سابق إصرار وتعمد وبلا مسؤولية". أما وزير الحرب ورئيس الأركان الأسبق موشيه يعلون فوصف السياسة الإسرائيلية بأنها "تطهير عرقي". كما نُقل عن الوزير بتسلئيل سموتريتش قوله: "نحن نفكك غزة ونتركها أكوامًا من الركام".
ومن الجانب الأمريكي، نُقل عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، خلال فترة بايدن، قوله إن "لا شك أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب"، مؤكدًا أن التصريحات الرسمية لا تعبّر عن موقف شخصي بل عن "موقف الإدارة التي اختارت عمدًا تجاهل ما يحدث".
التقرير يخصّص مساحة واسعة لدور الولايات المتحدة التي "لا توفّر فقط القنابل، بل أيضًا التبرير الأخلاقي"، مشيرًا إلى تأثير اللوبي الإسرائيلي على الكونغرس وصمت الإعلام الأمريكي، بما يُسهم في "عزل الشعب الأمريكي عن معلومات أساسية".
ويؤكد أن بايدن أصرّ على دعم إسرائيل رغم معرفته بوجود "انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني"، وفق شهادة ستايسي غيلبرت، المستشارة القانونية السابقة في الخارجية الأمريكية التي استقالت احتجاجًا. وتشير غيلبرت إلى أن إسرائيل ألقت قنابل بوزن طنين على مخيم للنازحين في رفح رغم تحذيرات صريحة من إدارة بايدن بعدم القيام بذلك.
ردًا على التقرير، عبّر مسؤولون في وزارة الخارجية الإسرائيلية عن صدمتهم، خصوصًا من توقيت النشر الذي تزامن مع ما وصفوه بـ"جرائم حرب ترتكبها إيران بحق الإسرائيليين" عبر ضربات صاروخية تستهدف التجمعات السكنية. ونقل موقع يديعوت أحرونوت عن دبلوماسي إسرائيلي قوله: "نشر هذا التحقيق في وقت ينام فيه الأطفال في الملاجئ وتُدفن عائلات كاملة تحت الأنقاض لا يُعدّ صحافة استقصائية، بل انعدامًا أخلاقيًا". واعتبر أن التقرير "يتجاهل سياق الأحداث، ويتنكر لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مضيفًا: "هذه ليست نقدًا، بل شيطنة".
التقرير يعرض أرقامًا مرعبة: قرابة 56 ألف قتيل في غزة، من بينهم أكثر من 15 ألف طفل. مقتل أكثر من 1000 من العاملين في المجال الطبي، ومئات الصحفيين، بعضهم تم حرقهم أحياءً بحسب الروايات. انهيار كامل للمنظومة الصحية، قصف مشافٍ، وتدمير أحياء بأكملها. في منطقة المواصي، المصنفة "منطقة إنسانية آمنة"، أُلقيت ثماني قنابل من طراز 900 كلغ. وتقدّر الأرقام الرسمية أن إزالة الركام الناتج عن الحرب سيستغرق نحو عشرين عامًا.
وفي سابقة ملفتة، يبرز التقرير نقدًا داخليًا من باحثين إسرائيليين، مثل المؤرخ إيلي مردخاي، الذي يدير موقعًا توثيقيًا مستقلًا بعنوان Bearing Witness، حيث ينشر مئات الفيديوهات التي التقطها جنود إسرائيليون بأنفسهم وهم يفجرون منازل المدنيين على وقع موسيقى راب. ويعرض التقرير بيانات من منظمات إسرائيلية مثل "بتسيلم" و"الحق" حول تعذيب الأسرى الفلسطينيين، والانتهاكات الجنسية، والتجويع، ومنع العلاج الطبي. ويُشير إلى وجود أكثر من 9000 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، العديد منهم دون لوائح اتهام.
مصطلح "الإبادة الجماعية" يتكرر في التقرير، ويستشهد بخبراء يصفون ما يجري بأنه يتجاوز المفاهيم القانونية التقليدية. ويذكر أن المؤرخ الإسرائيلي البارز، البروفيسور راز سيغال، وصف الأحداث في 15 أكتوبر 2023 – بعد أسبوع فقط من عملية السابع من أكتوبر – بأنها "جريمة إبادة جماعية".
التقرير يوثق شهادات موظفين أمريكيين سابقين رفضوا السكوت. هالة راريت، المتحدثة السابقة بالعربية باسم الخارجية الأمريكية، قالت إنها منعت من تضمين أي تعاطف مع الضحايا الفلسطينيين في البيانات الرسمية، مضيفة أن زملاءها رفضوا حتى مشاهدة فيديوهات لجثث أطفال على تيك توك قائلين: "هذا غير ذي صلة". وقدّمت استقالتها لاحقًا.
كما كشف الدبلوماسي السابق جوش بول أن "إسرائيل كانت تستفيد من إجراء خاص تتلقى بموجبه الأسلحة أولًا، ويتم التحقق من قانونية استخدامها لاحقًا فقط".
ومن أبرز ما ورد في التقرير، استخدام إسرائيل لبرمجية ذكاء اصطناعي اسمها "لافندر" لتحديد الأهداف، بآليات تصنيف "متساهلة" أدّت إلى مقتل أعداد كبيرة من المدنيين. الجراح الأمريكي د. مارك بيرلموتر، الذي تطوع في غزة، وصف ما شاهده بأنه "رؤوس أطفال مثقوبة، وأجساد محروقة وممزقة بطريقة لم يرها في حياته".
في أكتوبر الماضي، أرسل 99 طبيبًا أمريكيًا رسالة إلى الرئيس بايدن قالوا فيها: "كل إنسان في غزة تقريبًا مصاب أو مريض أو كلاهما. وهذا يشمل الأسرى الإسرائيليين أيضًا".
ويتوقف التقرير مطوّلًا عند مأساة الطفلة هِند رجَب، ذات الأعوام الخمسة، التي بقيت عالقة لساعات داخل سيارة وسط جثث عائلتها، وظلت تستنجد عبر الخط الساخن إلى أن تم إطلاق النار عليها، رغم نفي الجيش الإسرائيلي وجود دبابة في المكان.
أحد المصطلحات الجديدة التي تداولها الطاقم الطبي في غزة هو "WCNSF"، أي "طفل جريح بلا عائلة ناجية"، كما أظهر توثيق من مستشفى في القطاع أن جناح العناية المركزة تحول إلى مخزن لمعدات طبية دُمّرت عمدًا، عبر إطلاق النار عليها واحدة تلو الأخرى.
وتختتم المجلة تقريرها بالتحذير التالي: "إذا كان ما يحدث في غزة يعكس مستقبل الحروب، فإن لدى البشرية جمعاء سببًا وجيهًا للخوف."