كتاب الاغتيال
الجزء الثالث
ترجمة الحدث – عصمت منصور
مع شروق شمس الرابع عشر من أيار 1974، في الذكرى السادسة والعشرين لتأسيس إسرائيل، انطلق موكب مسرعًا في شوارع القدس الشرقية المتعرِّجة، وفي مقدمته سيارة شرطة تقلُّ خبير المتفجرات ألبرت ليفي غاضبًا وحانقًا، وخلفه سيارة إسعاف وجيبان عسكريان تابعان للشباك في منطقة القدس.
الموكب انطلق فور تلقّي اتصال من مجهول بمركز العمليات في الشرطة.
تحدَّث عبر الخط الهاتفي رجل مذعور يتوسل المساعدة بلكنة عربية:
أصدقائي، أرجوكم تعالوا فورًا إلى جبل المكبر أنا موجود بجانب مبنى الأمم المتحدة، ويقال: إن هناك قنبلة ويبدو أن الأمر خطير؛ لأن هناك أولاد، الكثير من الأولاد، يجب أن تأتوا قبل أن يصل الأولاد إلى المدرسة.
الضابط استدعى القائد المسؤول عنه، وهذا بدوره طلب من ألبرت التوجه للمكان.
شرطة الاحتلال في القدس كانت في حالة تأهب بعد أن تلقّت أكثر من إنذار حول نية منظمات فلسطينية تنفيذ عمليات في الذكرى السنوية لتأسيس إسرائيل، بل ربما يقدمون على اغتيال وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية هنري كسينجر الذي تواجد في اليوم نفسه في فندق الملك داوود في القدس.
الموكب الذي انطلق بجنون وصل إلى جبل المكبر الساعة 6:45 صباحًا، خيوط الشمس الأولى صبغت أزقة القدس بلونها الذهبي، إلى جانب هذا المشهد الساحر، لاحظت الطاقم وجود ثلاثة صواريخ كاتيوشا منصوبة على منصات خاصة بها ومعدة للقذف، ووجهتها نحو القدس (أحدها صوب الحائط الغربي "البراق" تمامًا)، والآخر نحو فندق الملك داوود، بينما الأخير صوب المدينة.
الأسلاك الكهربائية ربطت بين القذائف الثلاث معًا بساعة كانت مع مؤقت كان يشير إلى الساعة السابعة تمامًا كموعد لانفجارها.
ليفي تصبب عرقًا بينما انبطح ألبرت بجانب القذائف، وتناول معداته من التي كانت في حقيبته وباشر العمل، بينما تكتكة الساعة مستمرة، ألبرت تعرف على منظومة التشغيل الخاصة بالقذائف واستطاع أن ينتزع الأسلاك المربوطة في الساعة.
الساعة كانت قاربت على السابعة عندما استطاع ألبرت ان ينقذ المدينة من كارثة في اللحظة الأخيرة، (لم يحالفه الحظ بعدها بعامين حين قتل من عبوة انفجرت في يده).
أجرى ألبرت مع رجال الشاباك فحصًا أوليًّا لقذائف الكاتيوشا، ليتبين أنها جديدة كليًّا، وأنَّها من إنتاج كوريا الشمالية، قطرها 122 مليليترًا، وزنتها أربعون كيلوغرامًا لكل واحدة، ليبدأ البحث عمن قام بوضعها وأراد إطلاقها؟
الشاباك تولّى مهمة البحث عن الشخص الذي بات يشكل أرقًا حقيقيًّا في القدس.
في تلك الأثناء لمع اسم شخص في الشاباك تحوّل إلى أسطورة بفضل شخصيته القوية وقدراته الخارقة، يدعى "يهودا أربيل".
أربيل كلف بالمهمة التي بدت شبه مستحيلة، وهي إحباط العمليات في القدس التي كانت هدفًا للمنظمات الفلسطينية، وأيضًا إحباط عمليات التسلل إليها، ووقف عمليات تهريب المتفجرات والأسلحة إلى داخلها، وتحديدًا عبر نهر الأردن والجسور المفتوحة بينها وبين الضفة الغربية، بالإضافة إلى الحدود مع لبنان وسوريا.
الإخوة ملاعبي
أربيل أرسل رجاله إلى الحدود لمطاردة واصطياد المتسللين، واستطاع في وقت قصير أن يتعرف إلى من وضع قذائف الكاتيوشا في جبل المكبر.
للشاباك روايتان حول هذه الحادثة، الأولى تتحدث عن حادث آخر حدث في القدس في اليوم نفسه، مكّن الشاباك من معرفة المنفذين، حيث أطلقت بعدها بساعات قذيفة بازوكا من ساعة مع مؤقت باتجاه القدس الغربية، البازوكا اصطدمت بجدار، ولم تُحدِث أضرارًا جدية، ولكن أحد الشهود استطاع أن يتعرف على سيارة البيجو ستيشن التي فرّت من المكان وقراءة رقمها الذي وصل إلى الشاباك، والذي خلال ساعات استطاع هو والشرطة التعرف على مالك السيارة من شعفاط من عائلة الملاعبي.
الرواية الثانية تقول: إن بدويًّا عجوزًا مرَّ من حيّ تل الفول، وعندما مرَّت بقربه سيارة اختبأ خلف إحدى الأشجار، ومن هناك شاهد كيف قام أشخاص بإنزال حقيبة ووضعها بجانب الشارع، وكيف ذهب بعد مغادرتهم وفتحها، ليجد بداخلها أسلحة ومتفجرات.
البدوي العجوز الذي اتصل على الفور بالشرطة، وقامت بمصادرة الحقيبة، وما في داخلها قال أيضًا شيئًا مهمًّا: وهو اسم الشخص الذي قام بوضعها والذي يعتقد أنه من عائلة الملاعبي في شعفاط.
الروايتان على ما يبدو غير موثوقتن، والحقيقة هي أنّ أحد عملاء الشاباك هو الذي قدم المعلومة.
في كلِّ الأحوال الشاباك وضع قائمة مشبوهين محتملين، الإخوة الثلاثة من عائلة ملاعبي "زكي، زهير، رياض" وهذه كانت صدمة بالنسبة إلى الشاباك الذي لم يسبق أن شكّ بهم، لا بل إن الفلسطينيين كانوا يلقبونهم بـ"اليهود"؛ لأن إحدى جداتهم من أصول يهودية، وأحد إخوتهم تهوَّد، واستبدل اسمه الحقيقي باسم يهودي.
أنكر الإخوة تهمة وضع العبوات، والشاباك اضطر إلى أخذهم للضغط عليهم، فأحضر إلى غرف التحقيق جدتهم اليهودية على أمل أن يتسبب وجودها بانهيارهم، لكنهم قالوا لهم: "بإمكانكم إعدامها"، بينما قال أحد الإخوة أيضًا: يمكننا مساعدتكم في قتلها.
الشاباك كان على قناعة أن الإخوة الملاعبي هم من وضع العبوات ومن أطلق القذيفة، لأن ساعة الموقت في الحالتين شبيهة وعملت بالآلية نفسها.
بعد تحقيق مطول ومجهد اعترف الإخوة بالعملية، أول المعترفين كان زكي الذي اعترف بارتباطهم بحركة فتح، وقدّم إجابة للغز حير الشاباك طويلاً، منذ أن عثر على سيارة محملة بالمواد المتفجرة والقذائف التي لم تنفجر بسبب خلل فني في أحد دواوير المدينة، وهو ما أنقذ حياة المئات من موت محقق، دون أن يتمكن الشابك من معرفة مصدرها وكيف وصلت إلى القدس.
زكي اعترف أنه مع إخونه هم من أوصلوا السيارة التي لم يكن لدى الشاباك أي مشتبهين حولها، وأنهم عملوا مع أبو فراس، أو من يعرف بمصطفى عيسى اللفتاوي المسؤول عن القطاع الغربي في حركة فتح.
أبو فراس الذي كان يظهر عليه أنه شخص لا مبالٍ وكسول، وتبين أنه ذكي جدًّا ماكر ويعرف كيف يراوغ، علّق على جدار مكتبه في دمشق شعار "ثورة حتى النصر".
أبو فراس من مواليد القدس عمل تحت إمره أبو جهاد، واهتم بتجنيد وتدريب الفدائيين وزرعهم في الداخل، وتهريب الأسلحة والمتفجرات لهم من خلال شيفرات خاصة، تمّ بثها من خلال إذاعة الثورة الفلسطينية الخاصة بفتح.
أبو فراس كان خصمًا عنيدًا للشاباك الذي خاض معه حرب أدمغة لم تتوقف إلى أن عاد بعد اتفاقية أوسلو، وأصبح محافظ رام الله والبيرة في السلطة الوطنية الفلسطينية.
اعترف الإخوة من عائلة الملاعبي بالأعمال التي قاموا بها في السابق، ولكنْ سؤال: كيف وصلت إليهم المواد المتفجرة والقذائف؟ بقي دون حلّ لأنهم ببساطة لم يعلموا لأن التعليمات التي تلقوها بالشيفرة طلبت منهم أن يتجهوا في السابع من أيار إلى مدرسة الفرير الكاثوليكية في بيت حنينا، وأخذ ثلاث حقائب من هناك، وهي التي تم تشغيلها في العمليتين في اليوم نفسه، أما حقيبة السلاح فقد اعترفوا أنهم وجدوها بقرب محطة وقود قرب شعفاط، وأرادوا التخلص منها؛ لذا ألقوا بها قرب الشارع.
الشاباك كان مقتنعًا أن الحقيبة لم يُلقَ بها بهدف التخلص منها، بل إن شخصًا ما كان يفترض أن يأخذها من النقطة الميتة التي وضعت فيها.
التحقيق مع الإخوة الملاعبي وصل إلى طريق مسدود، حيث حوكموا بالمؤبد على الكاتيوشا والبازوكا وقتل مستوطن، حيث تمّ تحريرهم في صفقة تبادل الأسرى عام 1985 التي أنجزها أحمد جبريل.
أما سؤال: من أحضر العبوات وكيف دخلت إلى القدس؟ فقد بقي من دون إجابة إلى أن جاءت الإجابة من مكان لم يكن ليخطر على بال أحد.
الحلقة الثالثة:
كابوتشي في قبضة الشاباك