الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المعنى رحمه الله.. أبو نواس:المعنى والسخرية/ بقلم: محمد الأمين سعيدي

2017-08-22 09:24:57 AM
المعنى رحمه الله.. أبو نواس:المعنى والسخرية/ بقلم: محمد الأمين سعيدي
محمد أمين سعيدي


يطرح المتن الشعري النواسي رؤى خطيرة جدا في لغة ساخرة غالبا تأسست في واقع مغاير عاشه رغم طغيان المعنى القديم وانزعاجه إنسانا ومبدعا، دون مواربة أو تقيّة، من سيطرة الأنساق المنتهية الصلاحية، في نظره، على العالم. إنه ذاك الشاعر الواقف على الحياة ليسخر بشكل رمزي من الوقوف السابق له في عرف الشعراء على الطلل، وفي عرف المجتمع على التقليدية في التفكير والتعبير أيضا، على المقدس الذي يتحرك في خطاب الفقه والنحو والبلاغة والقصيدة، ويراه أينما نظر رغم تحضّر الحياة إلى حد كبير في زمنه. هنا كانت السخرية طريقا شقّه في اللغة لا مجرد وسيلة، ربما كانت غاية في ذاتها وهو يؤسس لجمالية أخرى تقول القيمة من خلال رؤيته إلى العالم، وتزرع في الكلام خطابا ساخرا من الكلام أولا باعتباره النسق الذي يصف الوجود، لكن الأخطر لأنه النسق الذي يختلقه بالوصف أيضا. ربما من هذا الباب كان استعماله لكلمات أو تعابير كانت تعتبر عامية في زمانه يتقصّد بها أمورا عديدة أهمها:استرجاع القصيدة من المؤسسة النقدية التي أطّرتها وسيّجتها بالمعايير المرسّخة للتقليد وللنسج على المنوال ليعيدها إلى الإنسان، وإرباك تلك المؤسسة من خلال الكلام النافر عن تعاليمها، الآبق الحرّ، المختلف إلى حد المروق، والصادق إلى درجة القداسة؛ قداسة الحرية حين يكون اختيار الفرد خطرا على المؤسسة فيتوغّل في تفكيك المعنى الموروث ويتغوّل إلى درجة إسلامه بالسخرية إلى نوم أبدي.


ربما، كان هذا حلما عند أبي نواس، لكن متنه نجح في تحقيقه شعريا وإنْ كان لم يتحقق إلى اليوم في الثقافة العربية التي صارت بسبب الربط المتعسّف للغة بالمقدس ثقافة إسلامية مغلقة تضيق بأيّة رؤيا مختلفة فتناصبها العداء بداية بالعنف الرمزي كالإلغاء والتكفير، وأخيرا بالاغتيال. ولنبدأ أولا من موقفه من الأطلال:


"قل لمن يبكي على رسْم درسْ
واقفا، ما ضرّ لو كان جلسْ!
أُترك الرّبْع وسلمى جانبا
واصطبحْ كرخيةً مثل القبسْ".


في مقول القول:"ما ضرّ لو كان جلس"!! تضرب السخرية معنى الوقوف على الطلل إقرارا بتقادمه وتفاهته، وللدلالة على عدم صلاحه للعيش، وهدما للتقليد الشعري المستمرّ من الجاهلية إلى زمانه والذي اصطلح عليه جمال الدين بن الشيخ بجمالية التأبيد، تأبيد طرق الجاهليين في الكلام، ومعلنا عن ضرورة الخروج من البداوة إلى المدينة. في مقول القول هذا"ما ضرّ لو كان جلس"!! ما الذي يشير إليه هنا؟ لأول مرة سيفكّر القارئ:صحيح، ماذا لو جلسوا على الأطلال؟ هي المفارقة التي يقترحها النواسي ليهدم رمزية الوقوف التي تضج بالتقديس. وقف الناس للملوك حضورا وبين يديِّ الله تخيّلا، لكن اقتراح الجلوس هو سخرية تهدم القداسة التي تحمّلتْها القصيدة لقرون، ويُسقط المعنى من شاهق، يميته، ويبصق عليه. في هذه الأبيات لا مشكلة للنواسي مع الأطلال فالعالم مليء بآثار السابقين. كانت مشكلته في العمق مع الوقوف الذي فكّر فيه جيدا فوجده مجرد خضوع فادح.


حرب النواسي إذًا كانت على التكرار الذي توغّل في الحياة، وتوغّل أكثر في الخطاب؛ خطاب المؤسسة الذي يحركه في الخفاء الديني والسياسي. ولذلك كان نصه الشعريّ يحاول إبدالات عديدة أعمقها كان على مستوى القصيدة والنسق الثقافي المسيطر في زمانه:


"عاج الشقي على رسم يسائله
وعجتُ أسأل عن خمارة البلد".
يبدأ الإبدال الرمزي في القصيدة من هجر الطلل باعتباره الانجذاب المتجاوز-شعريا- لأنساق حياة وكتابة قديمة؛ إلى رمز جديد:الحانة؛ لا باعتبار دورها الوظيفي في المدينة، بل كونها رمزا. ما قام به أبو نواس هو ترحيل للمواقع، بواسطة السخرية، من معنى إلى آخر، من رؤية يشهد على موتها إلى أخرى يحاول بعثها فنجح بتحقيقها في الشعر وظل ينتظر حدوثها في الحياة. ولأن التغيير الذي يريده كان ثقيلا جدا، متعثرا، ومنبوذا، صارت السخرية من المعنى القديم تمتزج بكثير من الغضب الذي تم توصيفه لاحقا من الدارسين على أنه شعوبية. ربما كان كذلك فعلا، لكن في عمقه ظل حلما يتوق إليه الشاعر ويعرف أنه لن يتحقق. ولذلك كان يسكر حتى يفقد المشي، ويؤرخ لذلك في مشهدية فاتنة يصف نديمه الذي ربما كان هو فقط، وسأختم ببعض أبياته هذا المقال التافه:


"تَأَنَّيتُهُ كَيما يُفيقُ وَلَم يُفِق
إِلى أَن رَأَيتُ الشَمسَ قَد حازَها الغَربُ
فَقامَ يَخالُ الشَمسَ لَمّا تَرَحَّلَت
فَنادى صَبوحاً وَهيَ قَد قَرُبَت تَخبو
وَحاوَلَ نَحوَ الكَأسِ مَشياً فَلَم يُطِق
مِنَ الضَعفِ حَتّى جاءَ مُختَبِطاً يَحبو.".