السبت  04 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

من أثر دمي نداء عوينة

2018-03-01 07:21:37 PM
من أثر دمي
نداء عوينة
نداء عوينه

(1)

نثروا قليلاً من دمي على الدرب المؤدي إلى بيت لحم القديمة، قالت الأمهات إن هناك ولداً سيكبر سنة كلّما اصطاد طيراً، وسيشيب رأسه كلما ابتعد عن المدينة خطوة، قالت الجدات إنه سيبدأ البحث عني حين يصطاد تسع سنونوات وتسع قمريات وتسع زواجل بيض، قالت صبايا الحيّ إنه يستدلّ عليّ حين يتتبع الوردات النابتات من أثر دمي، هكذا قالت نساء البلدة ورأسي مثبّتة في المقصلة، لحظات قبل أن هَوَت.

 

كان موتي صحوة ناقصة، حلم يقظة اختزله الوعي بخيبة أمل كبيرة، كان موتي ناقصاً مقصلة ونساء يختلقن الكلام عنه ليصنعن حكايات لهن، فمنذ أن اصطبغ شعري بالأحمر الدامي وركضت وراء العصافير في الهجرتين، قيل إن مسّاً أصابني، صارت البلدة تتجنب طريق بيتي وترشّ الملح عليّ، تخبطت في بلدي إلى أن مشيت مشيت مشيت بعيداً عن البيوت الملونة والشوادر الخضراء والرايات القانية، مشيت إلى مجرى النهر، جلست هناك، ونمت.

 

أفقت ولا مرآة تدلل تجعيدة وجهي الأولى، لا ماء يرطّب حنجرتي الصحراء. غبنٌ يمضي ليراكم غبناً آخر في هذا القلب رديء النبض. "انظري كم شاخ وجهك" قال لي النهر، "عدّي خطوط يديك والعنق الرفيع ترين كم سنة مضيتِ، سبعٌ من شعراتي البيض يغنين تفاصيل الحلم الأرعن والبحرُ مدٌّ. نسيت طريقي إلى الكلام.

همت بين النهرين إلى أن وجدته جالساً وراء صخرة قرب ديرٍ قيل إنني إن دخلته سينهار إلى ركام. ابتعدت قليلاً عن الدير المهدومة فكرته، تعثرت بظلِّ عملاق، وقبل أن أسأله ماذا يفعل جالساً هناك، رأيت وجهه، فحدّثني...

 

(2)

لم يعرف ابن الشمس القراءة ولا الكتابة. كان يبني المعابد والأبراج إلى أن فاق المألوف من فنون البناء.  حاول البشر تفسير حدائقه المعلّقة، فاكتفوا بالقول إنه معجزة، ولم يدركوا أن الصدأ على روحه أصله ليلة مطر رأى فيها أنه وحيد، وحيد إلى أقصى فنون المعرفة. رحل ينثر صلواته حول الأرض إلى أن اكتفى، ثم جلس على حافة تلك الرابية القريبة من ذي قار القديمة.

نزل ابن الشمس من وراء صخرته، سكب عرقه في مرمى النهر، ومشى بعيداً مثل قمر خائف من أن يصله أحد، فيكتشف أنه محض حجر رمادي.

حدّثه القلب الصامت منذ عصور: عليك أن تشرب من مائها وتأكل من طعامها كي تصير.

غمزت نجمة في السماء: اذهب إليها، فلست أبعد من أن تقول: تعال.

قلباه اللذان اختالا على طريق الحرير أعماراً كثيرة وقفا على باب بابل قبل ستة وثلاثين قرناً. ثقلت خطاه على الدرب المفضي إلى النور، كلما مشى خطوتين حنت عليه السماء وقالت: توقّف، ليس لك إلا هناك.

قلبي الواقف على باب بابل، قلبي الذي يختال في هذا الطريق فرشني في العتمة ليصحح وقفة ظهري.

صار ابن الشمس سليماً من جوع القلب، معافىً من وجعِ المنافي، فجاء يحكي عن مدينة كان ظلها منفى، جاء يحكي لعله يصير أقرب، لعله يحن قليلا أو يحب قليلا أو... يسكن شباكي صباحا، ويغادره إلى بابل في المساء، لأغني: تعال.

 

(3)

نشيد الـ تعال

أُكمل نقصي لأجدني لغة تجترح كلام العرافين وسهر العشاق على ضوء الشمعات السبع ولبّ القول وروح النصّ وموسيقى العزف البلقاني الصاخب. أُكمل نقصي لأرى وجه الله، نزوح الحرف إلى أصله، رقص الخيل على مهله، صوت القلب الخافت يجرح صوت الليل، وفوضى خيالات الحيطان.

 أُكمل نقصي لأجدني لغة تجترح كلام العرافات. سبع صبايا يوقفن الريح. تقول الواحدة السمراء: تعال. يلمع نور من خلف الأفق الأعرج. يقول الليل: تعالي نلعب في صخب الحلم الداكن. تقول: تعال لنلعب في ضوء المقبرة الأولى.

 تقف صبايا سبع تحت المطر الـ يدلف من سبع سماوات بيض. يقع ملاك حمل الغيم على ظهره. تستيقظ أمّ الفجر لتوقف دفْق الوحي، يقوم نهارٌ فيه قبائل من جنّ أوغاد، يلِدون الموت، شياطينٌ تلعب بالموت وراء الظل، تكون البشرية عمياء.

يقف الكون على حيلته المذعورة، شلّت كل الأيدي الـ تكتبه، كأنه حدث على مرمى حلم كل ما دونه تفاصيل حملتها الريح إلى ان وصلت شاطئ الفرات الذي كبر عليه ابن قلبي، وأنا لم اولد بعد.