الإثنين  20 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

طَريقة أخرى للتّبرير! بقلم: مهند ذويب

اعتِرفات ليليّة

2018-07-24 02:18:40 PM
طَريقة أخرى للتّبرير! بقلم: مهند ذويب
مهند ذويب

أتحدّث كثيرًا عن الاعتياد كحالة مرتَبطةٍ بالوُجود والألم الإنسانيّ، كتعبيرٍ لغويّ فَصيح عَن صُراخ الأمّهات والجدّات: "قلبي انطفى"، كتكرار الأيام وتعاقبها بنفس الطّريقة، والأسلوب، وتكرار الوُجوه، وأقنعة الوجوه، وكلّ ما يتعلّق بالدّواخِل الإنسانيّة الأقرب إلى الوحش مِنها إلى الإله -حسبَ أرسطو الذي أستحضره كثيرًا-، كاعتِياد للأمكِنة، والشّوارع، والأزقّة، وبائِع القهوة المبتَسم، وسيارة المسؤول الفارِهة، وأحذية النّساء القصيرة صيفًا،  لكنّ الأمر أصبح أبعد من ذلك، كثيرًا، وكثيرًا جدًا، أفهم أنّ أحداث التاريخ يمكن أن تتكرّر؛ لدرجة أنّ تكرارها يبدو مألوفًا، سأورد مثالًا صغيرًا على هذا قبل أن أكمِل:

" يُحكى أنّ أحدَ رجالِ الدينِ قديمًا كانَ يبيعُ تذاكِر دخولٍ للجنّة، وكانَ الناسُ يقصدونَه جماعاتٍ جماعات لنيلِ تذكِرة الدّخول، وصكّ الغفرانِ المنتظر، ثلاثُ جدّات بِعنَ خواتِمهن، شابٌ باعَ عجلَ عائِلته، وآخر خدمَ المعبَد ثلاثينَ يومًا ونِص؛ لينال التّذكرة، وفي أحدِ الأيامِ قرّر أحدُ الرّجال المتّهمينَ بالهرطقة، والمحكومين بالحِرمان إنهاء هذه المَهزلة، فذهبَ إلى المَعبد، وطلبَ من رجلِ الدين أن يشتري جهنّم كلّها، وبالفعل بعدَ عرضٍ وطلب، ومناقشة الأسعار باعَ رجل الدينِ جهنّم بآلافِ الروبيات، فخرجَ الرّجل فرحًا وصاح بالنّاس: اشتريتُ جهنّم، ولن أدخلَ إليها أحدًا، لا حاجَة الآن لتذاكِر الجنّة.

تذكّرت هذه القصّة عندما سَمعت قبلَ أيام خبرَ القبضِ على قِسٍ يبيع تذاكر للجنّة بـ 500$ في زيمبابوي، تمامًا كما تذكّرت الصّغير ولد أحمد، -التّونسي المجروح في قلبِه ويقينه جرحًا شجيًا- حينَ قال: 

"إلهي لقد تمّ بيعُ التّذاكر للآخرة...

و لم أجدِ المالَ و الوقتَ و العذرَ كي أقتني تذكِرة

فمزّق تذاكرهم يا إلهي؛ ليسعدَ قلبي

ألم تعدِ الناس بالمغفرة؟"

وتمامًا أيضًا تذكّرت صكوكَ الغفران في الدّيانات جميعها، وعندَ الأحزاب الإسلاميّة، والدين السّياسي، وجماعة الحشاشين في التاريخ الإسلامي، والأمراء، والخلفاء، والإكليروس، الأمر أصبحَ معتادًا لدرجة توقّع حدوثه، وفقدان الصّدمة والدّهشة من تكراره ومشاهَدته، لكنّني هُنا أتحدّث عَن أمر آخر، يزداد بصورة صَعبة.

منذُ فترة جيّدة وأنا أعاني مِن إحساسٍ برؤية الأشياء، والأحداث مِن قبل، لا أبالغ وحتّى الأحاسيس!، إحساس سيء أن تعيشَ حدثًا تظنّ أنّك رأيته مِن قبل، حاولتُ تجاهُل هذا، الأمر يزداد، ومدّة هذه الحالة –الومضة تزداد لتطالَ أحداثًا وتفاصيل أكثر، هذا ما أطلَق عليه العُلماء "ديجافو"، وهي كلِمة فرنسيّة تعني: شوهِدَ مِن قبل.

دارَ جدل بينَ العلماء حَول هذه الظاهِرة، بعضهم ربطها بالقوى الخارِقة، أو تفسيرات ما وراء علم النفس، أو التخاطر، أو التّنويم المغناطيسيّ، أو تفسيرها بناء على الأشباح، أو الأرواح الشريرة، وبعض التّفسيرات الدينيّة كرؤية الجَنين لشريط حياتِه في الرّحم، وبعض النّظريات العلميّة، كذهاب الصّورة إلى مركز الذاكِرة قبل مركز الإدراك في المخ، أو بطئ وصول الصورة إلى أحد أجزاء المخ، أو خطأ في أوامِر الأعصاب، أو اختِبار لتوافق الإدراك والذاكِرة، أو تأثيرات بعض الأدوية على الإدراك، تفسيرات كثيرة، لم تهمّني إطلاقًا.

ما يُهمّني في الأمر أن تَصِل إلى مرحلة متقدّمة جدًا من الاعتِياد، أن تتفاقَم حالَتك بطريقة تقتَرب إلى الفنتازيا، والتّخيلات الماورائيّة، وأن تتجه قراءَتك إلى الكوميديا الإلهيّة –ليست كوميديا دانتي، إنّما بشكل عام كقايين مثلًا-، وتتجه مشاهَداتُك إلى المسلسلات الأسطوريّة، والآلهة القديمة والجديدة -كلعبة العروش مثلًا-، وأن تتشبّع بسارتر حدّ الفيضان، وتحفظ نيتشه عن ظهرِ قلم، عندَها تدرك جيّدًا أنّ العالم مَزحة قبيحة، وتهريج مقدّس، عندَها ستكتبُ نصًا على هيئة قصيدة، وقصيدَة على هيئة نَص، عندَها ستستيقظ في الرابِعة صباحًا وتَكتب هذا:

"  تعبرُ عصافير حذرة سِياجَ الماوراء

تنفِضُ رأسَها مِن فكرة الموت

يهزّ المَوتُ رأسَه!

تَنظرُ العَصافيرُ خَلفها قلقة كجندي لا يُصدّق أنّه نجا

لم يكن سياجًا

إنّه جدارٌ من جَماجم الأطفال!

تعيدُ تجميعَ لهاثِها في حَوصلة

تضحّي بطيرٍ جريح؛

لأنّ كاهِنة السّرب أغوته فامتَنع

فحلّلت باسمِ الله رأسَه!

يرتَفع السّرب، تكبرُ الأشياءُ في عَينه

ينخَفض

تصبحُ الطرقاتُ أصغر!

هُناك، وراءَ الماوراء لا تُفيدُ الأسئِلة

ربّات البيوت يخبزن أياديهن

فيأكل الصّغار زغبًا محترقًا

هُناك، يمشي الرّجال إلى الخَلف

ويركَبون النّعام في الشّارع الضّيق

هُناك، لا نوافذَ تحبّ زقزقة الطّيور

يجرّب طيرٌ الوقوفَ على نافذة

يبتلعه الزّجاج!

هُناك، اختَلفت الأصوات

زقزقة العصافير نذير شؤم

والغراب طيرٌ مدلّل

هُناك، لا شيء صالحٌ للأكل

الطّعام يصيرُ حجرًا عند اشتهائِه !

هُناك، تختلفُ كلّ مسمّيات الأشياء

طاولة العَشاء -سريرُ نوم

المعبد -حمام سباحة

النّهر - طريق الخيول

الشّمس -إلهة المَطر

الزّرع أزرق

الأطفال -بيض أسماك

الآلهة -شياطينُ رجيمة

الأشجار -مناماتُ العمالقة

الخريف -نموّ الفراشة من نجمة

الأسود -لون الفرح -تاج الزّفاف

العَصافير -تنانين منقرضة!

هُناك، جرّب السّرب كلّ أسبابِ الحياة

تخلّت كاهِنته عن ربّها

قائِده استدار

استدار للأمام؛ كي يعود!

بعدَ أيام خيّم السّرب قربَ جدار الجَماجم

وفي الصّباح

اكتَشف السّرب أنّ العصفورَ الجريح نهضَ من المَوتِ

كانَ كبيرًا، شبعًا، معافى

عرفَ السّرب أنّ الموت هو الحياة

والحياة الحقيقيّة هي المَوت!

إنْ ذهبتُ إلى الماوراء يومًا

سأقتل الطّيور

لتعود حيّة

ونبني جيشًا يوقف انعِكاس الحياة في المرآة!"

وستجلسُ في المَقهى وحيدًا؛ لتبرّر قبحَ النّصّ السابِق بشكلٍ مشوّش، وتكتبَ هذه التّدوينة.