السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

التكيف الذاتي بين فشل قوة الكوماندوز ودقة أبو ماهر

2019-05-06 10:27:06 PM
التكيف الذاتي بين فشل قوة الكوماندوز ودقة أبو ماهر
جيش الاحتلال

 

الحدث ــ محمد بدر

واحدة من أهم الفلسفات الأمنية المقنعة لأجهزة المخابرات في عالمنا اليوم هي فلسفة التعقيد، وهي تقع على النقيض من الفلسفة الديكارتية التي تفترض أن تفكيك الشيء إلى وحدات صغيرة أولية يساعد في فهمه وإداركه بشكل مطلق. لقد أثبتت التجربة الأمنية أن تحديد العلاقة بين الوحدات لا تأتي بالنتيجة المنطقية حول طبيعة العلاقة المحصلة في بعض الأحيان،  وبالتالي فإن إدراك الإنسان والبيئة يجب بالضرورة أن يشمل محاولة فهم التعقيدات الكبيرة الناتجة عن تفاعل المكونات الثابتة والمتغيرة في بيئة الإنسان العدو.

إن نظم العلاقات الاجتماعية حساسة للغاية، ومحاولة فهمها ليست بالمهمة السهلة ولا تتحقق بالأطر النظرية وبالمناورات المحاكاتية، لأنها نظم متعددة الطبيعة والعلاقات فيها تتشكل ضمن حسابات سياقية معقدة، وأي تغير بسيط في إطار العلاقة الأمنية معها قد يسبب كارثة ويكلف الجهة الأمنية فشلا كبيرا. وأمام هذه الاستنتاجات، اقترح الباحثون الإسرائيليون في مجال الأمن مبدأ جديدا للتعامل على أساسه، أطلقوا عليه "مبدأ التكيف الذاتي"، ويفترض المبدأ أن رجل الأمن العامل في بيئة العدو عليه أن يتكيف مع البيئة ومتغيراتها بتنظيم ذاتي حتى لو كان ذلك على حساب الخطة الأساسية المركزية أو المنهجيات التقليدية.

هل فشل هذا المبدأ؟

واحدة من أبرز العلامات على فشل هذا المبدأ، اكتشاف فرقة الكوماندوز الإسرائيلية في خانيونس. ومن ما نُشر من تفاصيل، يمكن الافتراض أن ادعاء أفراد القوة بأنهم متطوعون لدى مؤسسة أجنبية ويقومون بتوزيع المساعدات؛ هو جزء من الخطة الأساسية الاستراتيجية التي عملت القوة على أساسها عدة أشهر، لكن الحوار الذي دار بين عدد من أفراد القوة خارج المركبة التي كانوا يستقلونها وبين المقاتلين الفلسطينيين هو عمل على أساس "مبدأ التكيف الذاتي"، لأنه لا يمكن أن يتخيل مقاتل فلسطيني في غزة أن أحد أفراد الكوماندوز الإسرائيلي يحاوره حول سبب توقيفه واستجوابه، وبالتالي اختار أفراد القوة العمل ضمن المتغير بمتغير، وإذا كان من فشل في تطبيقهم للمبدأ فإنه فشل استراتيجي في فهم طبيعة العلاقة في قطاع غزة بين مجموعة من الأفراد توقف مركبتهم مجموعة من المقاتلين، هل تتدخل النساء؟ هل يبدأون بالاتصال على من يعرفونهم في المقاومة؟ هل يبدأون بالصراخ والجدل؟..

 إن واحدة من أهم الملاحظات التي رصدها المقاتلون في ذلك الموقف، بحسب أحد الإخوة المطلعين من قطاع غزة، هو هدوء النساء المتواجدات في المركبة، وبقياس ذلك السلوك مع طبيعة السلوك الذي يمكن أن يصدر في حالات مماثلة داخل مجتمعنا حيث تتدخل المرأة في ظرف كهذا حتى ولو بالدعاء والجدل والتحسب (حسبي الله ونعم الوكيل)، كان هناك خلل يستدعي أن يشتبه المقاتلون بالمركبة ومن فيها، لقد كان الانضباط العالي الذي تحلى به ركاب المركبة سببا مهما في الكشف عن حقيقتهم.

قصة من بيروت

تعيدنا هذه الملاحظة في خانيونس إلى بيروت وعشرات السنوات للوراء، إلى حادثة نشر تفاصيلها رئيس تحرير مجلة الأداب سماح إدريس عن مرافقته للراحل المناضل أبو ماهر اليماني في بيروت رغم أن الأخير كان مطلوبا للجيش اللبناني والكتائب اللبنانية زمن حكم أمين الجميل، وعن لحظة تفاجئهم بحاجز الجيش، يروي إدريس: "بدأ العرقُ البارد يهطل من كلّ مسام جسدي ووجهي. "راحت علينا يا ماهر" قلت. نظر إليّ ماهر بكل هدوء. وقال: "مستر إدريس، حطّ حزام الأمان، وحاولْ تكون رايق". "رايق شو يا ماهر؟ سيفرموننا. سيلعنون سنسفيلنا. وبعدين شو خصّ حزام الأمان؟" سألته.
"سيظنوننا أجانب!" ردّ، "اعملْ زيّ ما قلتلك، مستر. لا تخف!"
امتثلتُ لطلبه. ووقفتُ أمام الجنديّ اللبنانيّ وأنا أسبح في عرقي وهلعي. نظر الجنديّ إلى ماهر. كان ماهر هادئًا، وعلى وجهه طيفُ ابتسامة، كأنه ذاهب إلى صيد السمك. ثم نظر الجنديّ إليّ. لا أعرف كيف كان وجهي: ممتقعًا؟ محتقنًا كمن يوشك على التبوّل في سرواله؟ ما أذكره أنّ الإيمان دبّ فيّ، فرحتُ أستظهر في قلبي كلَّ السور والآيات التي حفظتُها مذ كنتُ في بيت الأطفال - مدرسة المقاصد.
وإذ بالجنديّ يطلب مني هويتي.
- هويتي أنا؟ سألتُه.
- نعم، أنت. ما معك هويّة؟
- أنا؟ كيف ما معي هويّة؟ انا يللي معي هويّة. 
- مش لبناني؟
- كيف مش لبناني؟ شو بدي كون لكَنْ؟ أنا اللبناني.
- ايه عطيني ياها بلا كترة حكي.
اعطيته هويتي. فقارن بين صورتي وشكلي.ثم قال:
- الله معك.
لم أصدّق أذنيّ. لم يطلب هويّة ماهر، بل هويتي أنا، مع أنني حنطي البشرة، وماهر أسمر، وأنا حليق الذقن، وماهر طويلُها" .

هذه القصة تؤكد على أن أبو ماهر اليماني كان دقيق الملاحظة أكثر من جهاز مخابرات، واستطاع أن يتكيف ذاتيا ولكن ضمن فهم دقيق لعلاقة اللبناني بحزام الأمان، فيما فشلت قوة الكوماندوز في تحديد واستخدام العلاقة بين المرأة الفلسطينية في قطاع غزة والحاجز الأمني. هذه التفاصيل يمكن أن تغيب عن أضخم جهاز مخابرات يحاول فهم العلاقات داخل المجتمع العدو. وهو ما يشير بوضوح إلى نقص المعرفة واليقين الكاذب لدى أجهزة الأمن والمخابرات، فالقدرة على التنبؤ ووهم السيطرة، هي صورة مزيفة تحاول هذه الأجهزة أن ترسخها في عقولنا، رغم أنها تدرك أكثر من أي جهة أخرى أن لن تستطيع حصر تفاعل الإنسان العدو مع المتغيرات والسياق ولغة اليوم والشارع.