الحدث- أحمد أبو ليلى
تُفرج سلطات الاحتلال الإسرائيلي اليوم الاثنين عن النائب السابق عن حزب "التجمع الوطني الديموقراطي" باسل غطاس، بعد اعتقاله في أواخر شهر ديسمبر/كانون الثاني 2016 بتهمة إدخال هواتف نقالة خلال زيارته للأسيرين الفلسطينيين وليد دقة وباسل البزرة.
وكان غطاس قد وصل إلى الكنيست لأول مرّة في انتخابات 2013، ونشط على مدار سنين، في جمعيات اجتماعية، وأدار بعضها، وأسس المجلة الاقتصادية "مالكم".
بقدر ما يُشكل المتخيل حجر الزاوية للإبداع، لكنه أيضا ًمركبة ما ورائية تنقلك بين عوالم الواقع الواحدِ بتعددها وتنوعها ضمن هذا العالم، وما بين الواقع وما بين عالم ما ورائي أكثره انعكاسٌ لما هو ممكن ولما كان، ولما قد يكو. هل هو الأصل أم صورته، هو السؤال الذي يُسألُ داخل الأسر، ذلك أن الواقع المستمر والمستدام يُكتبُ له أحياناً أن يكون واقعاً موازياً، جزء من الحياة الكبرى للفلسطيني، المقسمة إلى حيوات وحيوات موازية.
كتبت زوجة باسل غطاس في وقت سابق تقول: "يختلف السجن المُتخيل تماما عن السجن الحقيقي ومعاناة الأسر، للأسير وللعائلة، فحين اخترق باسل القوانين الإسرائيلية، وقرّر إدخال الهواتف الخليوية إلى السجن الإسرائيلي، كانت دوافعه إنسانية إلى أبعد الحدود، فحين كان عضو برلمان في الكنيست الإسرائيلي عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي في القائمة المشتركة، اهتم بقضايا الأسرى، وشاهد ولمس عن كثب مقادير الظلم والمعاناة للأسير ولأهله والحرمان من التواصل بين العائلات." وخلال فترة حبسه عايش باسل غطاس كل المتخيل واقعاً.
حتى أنه قد صُنّف من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي أسيرا "تحت التحذير"، وهي صفة تعطى للذين يُشكلون خطرا على أمن دول الاحتلال، أو لشخصيات لديها حضور إعلامي، ما يستتبع التعرض له بشكل مستمر ومضايقته أثناء الأسر.
الزمنُ، بالنسبة للفلسطيني زمنٌ له صفات تنبع من صفات المستحيل أو الاستحالة، فبينما يُرادُ لهم الخروج من أوسع أبواب التاريخ وأزمنته، يظل الفلسطيني متشظياً بين أزمانٍ كانت سبباً في تشظيه أنطولوجياً، فهو اللاجئ الواقف عند زمن النكبة، والنازحُ الواقف عند زمن النكسة، والثائرُ المنتفضُ عند زمن انتفاضة الحجارة، وهو الخاسرُ الأكبر منذ زمن أوسلو، أما زمنُ المقابرِ فهو زمنُ التاريخ الطويل، الحقيقيُ الوحيد الصامتُ لكنه الشاهد الباقي، ليأتي بعده في المقام زمنٌ موازٍ للأسير في سجن شيده له المتغلب عليه بالقوة وبالنار وفي ظلغياب العدل.
كتب غطاس في رسائل وجهها لعائلته وهو داخل السجن متحدثا عن مفهوم نسبية الزمن يقول: "الزمن ونسبيّته، وهو موضوع أساسيّ في السجن، إذ إنّ مفهوم الزمن والوقت عندي، أنا الأسير حديث العهد، ليس كما هو عند الأسرى القدامى، فما أقيسه أنا بالساعات والأيّام لا يعني شيئًا عندهم، وكأنّها ثوانٍ بالنسبة إلى مفهومهم الزمنيّ، فكأنّنا نعيش في أزمان مختلفة أو مدارات كونيّة مختلفة؛ هم يقيسون الزمن بجدول مرتبط بحياة السجن والأسر، مثل التنقّل بين السجون، أو التنقّل بالبوسطات، أو إضرابات الطعام، أو الوقت بين كلّ قمع وقمع للوحدات الخاصّة؛ فمثلًا الأسير الّذي انتقل معي من "رامون" إلى "هداريم"، وينتظر عودته إلى "رامون"، بعد مرور ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو حتّى نصف سنة على وجوده هنا، زيادة عمّا كان يتوقّع، فهذا أمر عاديّ لا يشعر به؛ فهو الّذي مضى على سجنه 15 سنة ومحكوم مؤبّدًا، لا تعني له هذه الأشهر الكثير، بينما لديّ فهي قد تكون الفترة كلّها منذ دخلت السجن أو ما تبقّى منه، هو يعدّها لمح البصر وأنا أعدّها دهرًا. ما قد يبدو لامبالاة عندهم بالوقت، هو سلاحهم الأكثر حدّة وقوّة؛ للتعامل مع سنوات سجنهم الطويل... "
لكنه بعد أن أمضى تسعة أشهر في السجن عاد وكتب عن كيف تغير إحساسه بالزمن، فكتب يقول: "مضى اليومَ تسعة أشهر بالضبط منذ دخولي السجن، كم كنت أرى هذا اليوم بعيدًا في بداية فترة السجن! ولكن ها هو أصبح ورائي. في الأسابيع الأخيرة فقط بدأت أشعر حقًّا بتسارع مضيّ الوقت، وبتشابه الأيّام في السجن، الّذي كان مصدرًا للإحباط والملل والشعور بثقل الوقت بسرعة.
كنت لا أطيق سماع مَنْ يريد - بحسن نيّة طبعًا - تهوين الأمور عليّ؛ بترديد القول: "غمّض عين وفتّح عين ولّا السنتين منهيّات"، وأقول في سرّي: "أيّا فتّح عين وغمّض عين، يا شيخ أو يا شيخة، اللّي إيده في المَيّ مش مثل اللّي إيده في النار".
كتبت عن تعاطي الأسرى مع الزمن، ومفاهيمه المتفاوتة عندهم، أفكّر في سبب تغيّر إحساسي بمرور الوقت، لا أعزو ذلك إلى أنّي اعتدت السجن وحياته كحال الأسرى القدامى، وإنّما لأنّي بدأت أرى الضوء في نهاية النفق، وخاصّة أنّ ثمّة مواعيد محدّدة قد بدأت تلوح في الأفق، منها الاستماع للالتماس الّذي قدّمته ضدّ إدارة السجون، بشأن الموادّ المكتوبة الّتي أُخِذت منّي، وكذلك موعد لجنة الثلث في شهر أيلول. وفي أسوأ الأحوال، ومع زيادة التخفيض المرتقب، المسمّى التخفيض الإداريّ؛ الّذي يعني تخفيض شهرين ونصف من الفترة في كلّ الأحوال؛ يعني هذا أنّني سأتحرّر بعد سنة من اليوم، وهذا في أسوأ الأحوال، وإنّ غدًا لناظره قريب، وقد صدق أبو الطيّب المتنبي عندما قال:
فتًى يشتهي طول البلاد ووقته *** تضيق به أوقاته والمقاصدُ"