الأربعاء  24 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عميد الأسرى السوريين "صدقي المقت" يكتب في يوم الأسير: رسالة مفتوحة إلى من يهمه الأمر

"تحررتُ مؤخراً، لا لكي أصمت، إنما كي أحكي الحكايه، حكاية من بقوا في الأسر"

2020-04-17 10:22:10 AM
عميد الأسرى السوريين
عميد الأسرى السوريين "صدقي المقت"

 

 

أنا واحد من هؤلاء الأسرى، عشت بينهم عشرات السنين، كان من الممكن أن أكون رقماً آخراً يُضاف إلى العدد الإجمالي للأسرى: 5000.. 5551.

أرقام إعتدنا على سماعها في كل صباح ومساء، وما عادت تعني لنا شيئاً، تحررتُ مؤخراً، لا لكي أصمت، إنما كي أحكي الحكايه، حكاية من بقوا في الأسر، حكاية ما يجري هناك داخل سجون الإحتلال الإسرائيلي.

أنا هنا، كي أصرخ صرختهم، ولكي أحكي وجعهم.

أنا قادم من هناك، من معتقلات تعيش خارج الزمن، وخارج العصر والحياة، وخارج القانون، وخارج أي شرعيه أخلاقيه أو إنسانية، كل شيء هناك مباح أمام الجلاد، يفعل ما يشاء، ولا أحد يبالي، يزجّنا بالآلاف داخل المعتقلات ولا أحد يسأل، يحاصرنا الجلاد بسياطه وعصيه وأسلاكه وقضبانه وجدرانه العاليه.. ويحاصرنا النسيان والإهمال والذاكره العربية المفقوده أصلاً، عصي الجلاد تؤلمنا، ويقتلنا أكثر ذلّكم، الصمت الذي يلفّنا من كل جانب.

ذهبت النخوة العربية وما عاد لها أي أثر، كنا يوماً عناويناً بارزة، تبدأ بها نشرات الأخبار والمهرجانات الاحتفاليه والخطب والقصائد، يوم قمنا بأعمالنا النضاليه ضد الإحتلال، كل بطولة من تلك البطولات التي هزّت الكيان الصهيوني، مرتبطة بشخص أو عدة أشخاص، المحتل يعاقبنا بالسجن مدى الحياة مدى الحياة على ما قمنا به، والذاكره العربية أخذت البطوله، وتركت صاحبها في الأسر لعشرات السنين. أي انفصام في ذاكرة تمجّد البطوله وتدفن البطل! أي نخوه تلك، التي تشتعل لدى سماعها نبأ عمليه فدائيه ضد هذا المحتل، وتنطفئ أمام سنوات الأسر الطويلة! أي شعرٍ ذاك الذي يمجّد بطولات المناضلين الفلسطينيين في الوطن المحتل، ويصمت دهراً أمام ما يلاقيه الأسرى في سجون الاحتلال.

فلسطين ليست مجرد اسمٍ في الهواء، وليست مجرد قضية معلقة في الفضاء، فلسطين هي الإنسان الفلسطيني، هي الأرض الفلسطينية، هي الأسير الفلسطيني، هي أسرة الشهيد الفلسطيني، هي من هُدّمت منازلهم، ومُنعوا من الخروج من القرية، ومن أُهينوا وضُربوا على الحواجز. فلسطين هي العمال الذين يقفون بالآلاف على المعابر في منتصف الليل بانتظار فرصة عمل داخل الكيان.. فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي! فلسطين هي العمال الذين يدخلون تهريباً الى فلسطين المحتله عام 48 للعمل في مهن وحرف لا يتنازل الإسرائيلي للقيام بها، وفي ظروف تذكّرنا بالعبودية، وإذا ما ضُبط هذا الفلسطيني متلبّساً بجرم "العمل الشريف من أجل لقمة العيش"، يُزج به في سجون الإحتلال، عمال خارج القانون وخارج الزمن وخارج الذاكرة العربية، منسيون تماماً، مثلنا نحن الأسرى، نعيش خارج الزمن وخارج الذاكرة العربية.

نحن الأسرى في سجون الإحتلال، لسنا مجرد تقارير في ملفات المخابرات الإسرائيلية، ولسنا مجرد أرقام في الذاكرة العربية التي تفرح كلما ارتفع الرقم...

لكل أسير منا اسم وهوية، وذكريات طفولة في شوارع قريته، لكل أسير أسرة تنتظره، أمٌ تعدُ سنوات الاعتقال ليس بالأيام وإنما بالثواني، وتعدُّ ما تبقى لابنها كي يتحرر بأجزاء من الثانية، تحسبُ كل يوم، كم عيد مر، وكم عيداً سيمّر، كم وجبة إفطار مرّت، وكم وجبة إفطار ستمّر، لكل أسير فتاة كان يحبها، وقد اتفقا على ترتيبات الخطبه أو الزواج، بعضهن ما زلن ينتظرن، وأخريات هجرن أو أجبرن على الهجران لانعدام الأمل، وبقي هذا الحب المكلوم معلقاً على جدران السجن، يحرق قلب الأسير كل لحظة، ولسنوات طوال.

لسنا أرقاماً في الذاكرة العربية، وإنما للبعض منا أبناء، وبنات وُلدن في ذات عام الاعتقال، وكبرن، وأصبح عمرهن بعدد سنوات غياب الأب، تحتفل الابنة بعيد ميلادها العشرين، لتتلقّفها الذاكرة، وتصوّب قلبها إلى السجن، ويتحول الاحتفال إلى تراجيديا "عشرينية الأسر". تخرج من بيتها يوم زفافها، بعد أن تأجّل الموعد عشرات المرات، على أمل أن يشارك الأب في زفاف ابنته، وعندما يفقد الجميع الأمل بكل الفرص الضائعة وغير الضائعة، الفرص الحقيقيه والفرص المفترضه في عالم الخيال، يُقام الفرح اليتيم بغياب الأب الممدّد على سرير في زنزانة، يقضي ذلك اليوم وتلك الليلة، في استحضار مشاهد مأخوذة من عالم الخيال، لزواج ابنته في عالم الواقع! يُمضي عمره وكل سنوات الأسر، وهو ممزقٌ، ما بين خياله الرحيب وواقعه المرير!

لسنا أرقاماً في الذاكرة العربية، وإنما للبعض منا زوجة تنتظر، اعتقل العريس يوم زفافه، أو قبل أن يتمّم شهر العسل، وبقيت الفرحة معلّقه في الهواء، وبقيت الأحلام وخطط المستقبل متناثرة، ما بين مكان الفرح وجدران السجن.

تمضي السنين، وخطط المولود القادم تؤجَّل من عام إلى آخر، اختاروا الاسم، ورسموا مستقبل الطفل القادم، الذي لم يأتِ بعد، لأن الذاكرة العربية غيّبت اسم الأب، وأطفأت أنوار حفل الزفاف!

عشرون عاماً في الأسر، والعد التنازلي لا يتوقف، وفرص الإنجاب في قلق، العمر البيولوجي للإنجاب للزوجة لا ينتظر الذاكرة العربية كي تستيقظ، كل شيء مهدد بالإنهيار من حوله، وإن لم يأتِ المولود هذا العام فلن يأتي ابداً!

لا بأس من الانتظار عدة أشهر، ربما يأتي المجهول بما يوقظ الذاكرة العربية، وتمنحه فرصة أخيرة، بولادة أحلام من رحم هذه الذاكرة، كي ينقذ القارب من الغرق.

صمتٌ يطبق من حوله، ولا شيء يتغير، يقرر أن يتصرّف، فإن لم يُقدم هو على المغامرة، فلن تفيده تلك النخوة النائمة، فيخاطر، ويهرّب نطفة، منه، لتلتقي مع نصفه الآخر، تتحدى كل قوانين وإجراءات الجلاد، وتتحد مع نصفها الآخر، لتتكوّن أحلام، في رحم المعاناة والقهر والحرمان!

ما عادت تهمه كل الأيام والشهور والسنين المتبقية، وما عادت تعني له النخوة العربية أي شيء، سيان عنده، إن استفاقت من سباتها أم لم تستفِق!

هم تسعة أشهر، وستأتي أحلام معلنةً انتصاره على جدران السجن وعلى النسيان، خاض معركته بمفرده، بعد أن جُرد من بطولته، وتخلّى عنه الجميع، وتُرك وحيداً في الميدان.

خاطر بكل شيء وتحدى، تسعة أشهر، توازي كل سنوات الأسر التي مرّ بها، تُولد أحلام بعد أن مرّت بكل مراحل التهريب!

طفلةٌ خارج الزمن، وخارج المنطق، وخارج القانون، وبكل تأكيدٍ، خارج الذاكرة العربية!

هي تشبهنا بكل شيء، بولادتها تحكي حكايتنا، تروي كل شيء..

أحلام.. اصرخي صرختنا.. قولي لهم من أنتِ.. لا تصمتي.. ايقظي ما تبقى من الذاكرة العربية.. ايقظي ما تبقى من النخوة العربية!

قولي لهم: "أريد أبي.. لقد سلبه الاحتلال حريته وسنوات عمره، وأخذتم أنتم بطولته، أريد ما تبقى من أبي، إنه لي وحدي، أرسلني خارج الأسر كي أدافع عنه، وأصرخ صرخته، وأحكي وأشكو وجعه...

أرسلني إلى وطني في هذه الدنيا، بعد أن انتظر عشرات السنين، ولم يصله منكم سوى الصمت، ولا شيء غير الصمت.. أريد ابي حياً، أعيش معه ما تبقى له من عمرٍ، قبل أن يتحول إلى ذكرى مدفونة في التراب، عندها لن أصدقكم، ولن أصدق كل قصائدكم وأشعاركم وأغانيكم، التي تمجد ذكرى أبي".