الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قصة "سره الباتع" للكاتب يوسف إدريس

الجزء الثاني

2023-03-24 03:23:10 PM
قصة

تدوين- نصوص

٥
وعلى الرغم من غرابة المشكلة وضخامتها فإني لأعجب لنفسي كيف كنتُ أحيانًا أنساها؟! كنتُ إذا فكَّرتُ فيها فكَّرتُ فيها، وإذا نسيتُها نسيتُها، وإذا فكَّرتُ فيها آلَيْتُ على نفسي ألَّا أفكِّر في غيرها ما حَيِيتُ، وإذا نسيتُها ذهبتْ عن بالي تمامًا وكأنِّي لم أعرِفْها قطُّ.

وأول الأمر كانتْ حين تخطر لي ولا أجِدُ لها جوابًا شافيًا كنتُ أختَنِقُ بالضيق وأحس أني أريد أن أقتُلَ نفسي، ففي تلك السِّنِّ لا نحتَمِل أبدًا أن يبقى السؤال إذا عنَّ لنا بلا جواب، ولكنَّ الضيق إذا زاد عن حدِّه ينقلب إلى ضدِّه، وكان ضيقي قد زاد عن حدِّه، حتى بدأتُ أنا الآخَر أفضِّل طريقة أهل بلدنا، وأكاد آخُذُ السلطان حامد كالقضية المسلَّم بها، ولا أهتمُّ بها أو بقضيته إلَّا كما يهتمُّ أهل بلدنا بها، ولا يكاد يخطر لي إلَّا إذا مررتُ على الجبَّانة مثلًا، ولمحتُ مقامَه رماديًّا وحيدًا بعيدًا، أو إذا وقَعَ في يدِي قرش مكتوب عليه: «ضُرب في عهد السلطان حسين»، أو كان أحيانًا يخطر لي فجأة وبلا سبب، وكأنَّ عقولنا تجتَرُّ أحيانًا ما تختزنه فتُعِيده إلى وَعْيِنا في ساعات لنكمل فحْصَه وطحْنَه. 

ولكنْ ذات يوم عثرتُ على شيء مُذْهِل غريب زاد المشكلة تعقيدًا، فقد كان لنا نحن تلامذة بلدنا فريقٌ محترمٌ لكرة القدم، فريق أول وفريق ثان، ولم أكن في كليهما، كنتُ شغوفًا باللعبة، ولكنِّي كنتُ أفضِّل التفرُّج ومراقبة اللاعبين، ولهذا كنتُ أرافِقُ فريقَنا إذا ذهب ليُبارِيَ فريقَ بلدة أخرى، وكانتْ مبارياتٍ رسميةً حقيقيةً، نرسل «باصه» مكتوبة وموقعًا عليها من رئيس الفريق ومدرِّبه، ويأتي الردُّ مكتوبًا أيضًا وفيه تحديد اليوم والساعة والمكان، وفي اليوم المحدد (غالبًا صباح الجمعة) يُخطَّط الملعب ويُشتَرَى اليوسفاندي والبرتقال للهافتيم، وتُرسَل الأحذية القديمة منذ الصباح الباكر إلى الجزمجي ليُصْلِحَها، وتُنفَخ الكرة عند العجلاتي بقرش وتُطْلَى بحبَّةِ طماطم لكي تبدو جديدة، ونستعدُّ للمباراة.

وفي يوم الجمعة ذاك كنَّا قد ذهبنا لنُلاعِبَ بلدةً بينها وبين بلدنا مشوار، وكالعادة كان المكان الذي اختاره فريقُها للعب قريبًا من الجبَّانة، فنادرًا ما تجد في قُرَانا مكانًا فسيحًا مستويًا يصلح للعب إلَّا ذلك المكان الذي يقع على حافة الجبَّانة والذي يستعمل كجرن في أيام الدِّراس.

وشات أحدُ لعِّيبَتِهم الكرة شوتة «بوز» أرسلَتْها عالية بعيدة تخطَّتْ نطاق الملعب والجبَّانة، واستقرَّتْ فوق بناية حجرية صغيرة كانتْ قريبة من المزارع، وفُوجِئْتُ بأحدِ أفراد فريقِهم يشتم اللعِّيب الذي شات وهو يقول: «دلوقتي مين ح يجيبها من فوق السلطان حامد؟!»

وتركتُ تتبُّعِي للمباراة نهائيًّا، وما كاد يأتي الهافتيم حتى ذهبتُ أسأل أفراد الفريق الذي كنَّا نُلاعِبه، ومِن كلماتهم المقتضبة اللاهِثة عرفتُ أنَّ بلدهم فيها سلطان حامد آخَر، له مقام يُشْبِه إلى حدٍّ كبير مقام السلطان حامد في بلدنا، وله أيضًا نافذة يسيل منها شمع أبيض متجمِّد ويصنع أنهارًا وبحورًا في الأرض، وهو الآخَر تُنذَر له النذور، ويُستعان بيدِه وتُخفَض من أجْلِه الأسعار، وسرعان ما اكتشفتُ خلال مباريات أخرى وأسئلة واستقصاءات بلا مباريات أن هناك سلاطين آخَرِين، يكاد يكون لكل قرية في إقليمنا سلطانها الخاص.

وكان هذا أكثر من أن أستطيع أن أفكِّر فيه أنا وكل بلدنا مجتمعة.

وما قابلتُ إنسانًا سواءً كان من بلدنا أو من غيرها إلَّا وسألتُه، والشيء الذي كان يُفْقِدني عقلي أنهم جميعًا كانوا يأخذون الأمر بهدوء وبساطة ويستطيعون النوم بعد أسئلتي، بل ويتناولون الطعام ويضحكون، وكأن من الطبيعي أن يُوجَد لكل قرية سلطان، له اسم واحد هو حامد، سلطان خاص بمقام خاص، سلطان لا يعرف أحدٌ كيف دُفِن، ولا مَن بَنَى له المقام، سلطان شيطاني استَيْقَظوا ذات صباح فوجدوا مقامَه منتصبًا عند حافة جبَّانتهم، ووجدوا مكانته سامقةً في أذهانِهم.
كل ما ظفرتُ به كان إجابات غامِضةً تزيد من ثورتي وعجزي وهياجي، فمِن قائلٍ: إنَّ هذا حدث من قديم الزمان ولا أحد يعرف سِرَّه، ومِن قائلٍ: إنَّه سلطان يَمُتُّ بصلةِ القُرْبى إلى أبي زيد الهلالي سلامة، ومِن قائلٍ: إنَّه سلطان واحد حقيقي، ولكنَّه كتَبَ في وصيَّتِه أن تُصْنَع له مدافن في بلاد عدة يُدْفَن في واحدٍ منها فلا يستطيع أعداؤه أن يَعْثُروا أبدًا على جثته.

ومِن قائلٍ: إنَّ السبب في هذه اللخبطة كلِّها هي الحكومة وهي وحدها المسئولة.

مِن أي مِلَّةٍ هو ومِن أي دين؟

الله وحدَه يعلم.

لماذا تحبُّونه وتقدِّسونه وتنذرون له النذور إذن؟

مَن يدري ربما كان ذلك لحكمة تَخْفَى على البشر.

ونحلَ جسدي، وبدأتْ ألوانٌ كثيرةٌ تتابع أمام عيني إذا وقفتُ، وأحيانًا كنتُ أكلِّم نفسي، ونظرتُ في المرآة يومًا فكدتُ لا أعرف ملامحي.

وخفتُ ولعنتُ السلطان ولُغْزَه واليوم الذي قدَّمتُ له فيه النذر، خفتُ أن أموت، وأقسمتُ أن لا أعود أفكِّر فيه، جعَلَني أبي أقسِمُ أمامَه علَّ صحَّتِي تعود، ولم تَعُدْ إليَّ الصحة؛ إذْ لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير، حتى ولا بعد أن أخذني أبي إلى الحكيم، وقال لي الرجل السمين الطيب وهو يُمْسِك يدي الناحلة بكفِّه الطرية التخينة الدافئة: «مالك يا بني؟»

وخفتُ أن يعتبرني مجنونًا إنْ أنا قلتُ له، ويُرْسِلني إلى السراية الصفراء، فقلتُ: «ما فيش»، وفحَصَني فلم يَجِدْ شيئًا، ولكنِّي انتهزتُ فرصة خروج أبي، وخفتُ أن أُجَنَّ إن أنا لم أقُلْ له، فتردَّدتُ وأنا أسألُه إن كان يَعْرِف حلًّا لهذا اللغز، وسألَنِي ما هو ذلك اللغز؟ وقلتُ له كل شيء، وختمتُ كلامي بأنَّ ما أمْرَضَني هو أنِّي لم أجِدْ حلًّا ولا تفسيرًا.

وأطرقَ الرجل بوجْهِه السمين حتى تفرطح لُغْد الدُّهْن المتهدِّل من عنقِه ثم رفع رأسه، ولم ألْمَحْ في وجهِه استخفافًا ولا تكذيبًا، كل ما حدث أنَّه رفع لي يدَه وقال بوجهٍ طيبٍ جادٍّ: «دول إيه يا بني؟»

وحرَّك أصابعه، فقلتُ: «صوابعك.»

– «كم صباع؟»

– «خمسة.»
– «أنت متأكد؟! عد تاني.»

ومع أني كنتُ متأكِّدًا تمامًا إلَّا أني عدَدْتُها فعلًا ووجدتُها حقيقة خمسة، فابتسم الرجل وقال: «طب أوجد لي حل اللغز ده؛ اشمعنى الواحد له في كل يد خمس صوابع بس؟! ليه ما يكونوش ثلاثة؟! وليه ما يكونوش ستة؟! اشمعنى خمسة بس؟! جاوبني!»
ولم أستطع إجابتَه، وكان أبي قد حضر فشيَّعَنا إلى الباب وهو يضع يده ذات الأصابع الخمسة على كتفي ويقول لي: «يا بني، فيه حاجات كتير في الدنيا دي مالهاش تفسير، فاشمعنى نقِّيت حكاية السلطان حامد عشان تموِّت نفسَك عشانها؟! علشان تلقى لها حل لازم تفكَّر وعشان تفكَّر لازم تكون عايش، وعشان تعيش لازم تاكل، كُل!»

وظلِلْتُ آكُل حتى أبطلتُ التفكير، وحتى نَمَا جسدي وكبرتُ، وتركتُ مدارس ودخلتُ مدارس، ونسيتُ كل شيء عن حكاية السلطان كعادتنا حين ننسى إذا كبرنا كل ما أرَّق تفكيرَنا ونحن صغار.

٦
وبعد سنين كثيرة وسنين، كنتُ في إجازة في البلدة ذات صيف، وعدتُ إلى البيت بعد المغرب فوجدتُ رجلًا غريبًا جالسًا في وسط الدار يلْتَهِم لُقَم العَشاء بسرعة وتوحُّش.

ولم أستغرب لوجود الرجل، فقد قلتُ إنَّه لا بد واحدٌ من ضيوف جدي الغريبين، وكان جدي رغم مُضِيِّ كل تلك المدة لا يزال عجوزًا كما هو، ولا يزال يُزاوِل هوايتَيْه المحبَّبتين، شرب القهوة الحلوة خلسة، واستضافة الغرباء، وكانتْ هوايته الأخيرة هذه مبعثها حبُّه الشديد للحديث، كانتْ لذَّتُه الكبرى أن يجِدَ مستمِعًا ليحكي له، أو يجِدَ حاكيًا ليسمع له، وكان ساخطًا على بلدتنا التي لم يَعُدْ فيها أحدٌ يُحْسِن الكلام، وفي النهاية أنَّ مَن يُحسِنون فن الحديث قد ماتوا خسارة وتاواهم التراب، وتركوا جيلًا كالبهائم المكمَّمة لا يُجِيدون الكلام وكأنه بفلوس، ولهذا كان جدي شغوفًا بكل غريب يهبط إلى بلدنا، وكان نادرًا ما يهبط إليها غريب.

وما كان أسعدَه حين يتلَفَّتُ للسلام بعد صلاة العِشاء في الجامع فيَلْمَح بين صفوف المصلِّين غريبًا، فعادة الغرباء إذا هبطوا القرى أن يذهبوا إلى الجامع حيث فُرَص الاستضافة أكثر، وحيث يُمْكِن المبيتُ إذا لم يَجِدوا المضيافَ الكريم، وكان جدي ما يكاد يلمح أحدهم حتى يسحبه من يده إلى بيتنا، وكم من المشاكل كانتْ تنشب، ولكن كان لا بد أن تُوقَد النار في النهاية ويتعشَّى الضيف، وتوشوش كنكة القهوة على مهلها في النار ويتكئ جدي على مسندين ويُخرِج صندوق «المضغة»، ويروح يلوك أوراق الدخان التي قضى ساعات كثيرة من اليوم يدقُّها في الهون ويُضِيف إليها التوابل، ولا بد أن يحضر جدي للضَّيْف كيفَه، سجائر إذا كان يدخِّن، وجوزة إذا كان من كيْفِه المعسِّل ويبدأ بهذا الكلام.

وغريبٌ أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يَفِدون على بلدنا؛ إذ هم في العادة لم يكونوا يزورونها لقضاء عمل معيَّن، هم فئة عجيبة من الناس تلفُّ القرى وتقضي في كل قرية ليلة، ومعظمهم لا يُجِيدون حرفةً ما، أناس هائمون على وجوههم هكذا، أو كما يقولون سائرون بلاد الله لخلق الله، بعضهم لصوص تابوا، وبعضهم عُمَّال من المدينة عاطِلون، وبعضهم عندهم لَوْثة، وكثيرون فلاحون أفلسوا من كار الفلاحة الشاقِّ ولم يُوَفَّقوا إلى عمل آخَر، ولكنَّهم يتَّفِقون جميعًا أنَّ لكلٍّ منهم قصةً، وقصة في أغلب الأحيان رهيبة دامية؛ أزواج عشِقَتْ زوجاتُهُم عليهم وطردَتْهم بعدَما جرَّدَتْهم مِن كل ما يمتلكون، أناس يقولون إنَّهم محكوم عليهم بأن يظَلُّوا تائهين في بلاد الله هكذا إلى أن يَحِين أجلُهم، وتسأل عمَّن حكم فيقولون: هو، فتقول: مَن هو؟ فيقولون: هو والسلام! أناس تلمح في عيونهم نظرة حائرة تائِهة غير مستقرة، نظرة كلب ضال، نظرة مَن لا يعرف له بيتًا ولا أهلًا ولا أحد وراءه يهمُّه أمرُه، نظرة مَن لا يعرف إلى أين المصير ولا يهمُّه أبدًا إنْ كانتِ الشمس ستشرق مرة أخرى.

ولعلَّنِي ورثتُ تلك الهوايةَ عن جدي، ولكنَّ متعتي الكبرى أنا الآخَر كانتْ أن أربض بجواره إذا جاء الغريب، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعني من مكاني أو تمنعني من سماع حديث الغريب أو تأمُّل هيْئَته أو قراءة ما يَدُور في وجهه.
تلك الليلة أيضًا جلستُ أحدِّق في الغريب الجديد، كان يرتدي جلبابًا قديمًا من العبك، وعمامة حمراء فيها قطعة سوداء من الخلف، ولم يكن مظهرُه يدلُّ على حيرة أو جنون، عيناه فقط كانتا مطبقتين على الدوام، لا يفتحهما إلَّا حين يتكلَّم حتى إذا ما سكت أطبق أجفانَه في الحال.

وكانتْ لجدي طريقةٌ ساحِرةٌ في بدء الكلام وفك عُقَد اللسان.

فهو يظلُّ ساكتًا حتى يتعشَّى الغريب ويشرب شايَه أو قهوته ويأخذ أنفاسًا من الدخان، وغالبًا ما كان الرجل يتكلَّم بعد هذا من تلقاء نفسه، ودون حاجة إلى سؤال، ومعظم هؤلاء الغرباء إذا تحدَّثوا كانوا لا يُبالِغون، ولا يَكْذِبون، وكأنهم يدركون أنها ليلة، مجرد ليلة، وأنَّ المستمع رفيق طريق، مجرد رفيق طريق، ومهما كان في المبالغة والكذب من روعة، فلا شك أنَّ أرْوَع شيء عند الإنسان أن يُتَاح له ذات مرة أن يقول الحقيقة دون أن يجرَّ عليه قولُها مسئولية أو متاعب.

قال الرجل إنه من الفيوم، وإنه ذاهب إلى الشام في حب الله، وإنه سار على قدميه خمسين يومًا وأمامَه مسيرة مائة يوم بإذن الله، ولم يكن حديثه مُسلِّيًا، كان يتكلَّم ثم يصمت ويغلق عينيه دون أن ينتهي الكلام.

وبدأ جدِّي يتثاءب، وكنتُ لا أستطيع الكلام، فجدِّي كان قد نبَّه عليَّ ألف مرة ألَّا أفتح فمي إذا كان أحدُهم يتكلَّم وأنَّ عليَّ أن أجلس فقط وأستمع.

وكثيرًا ما كان يؤدِّي الحديث إلى سكوت، ويطول السكوت والنار قد تحوَّلتْ إلى جمرات، والجمرات غُطِّيَتْ بطبقة رقيقة من الرماد، والليل ساكن ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظَّمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم.
وفي نوبة سكوت طويلة أطلقْتُ السؤال الذي أرَّقَني طويلًا فسألته: لماذا العمامة الحمراء ذات القطعة السوداء من الخلف؟

فقال: «لبسنا كده.»

ورأيتُ جدي يعتَدِل وينفض عن نفسِه النُّعاس ويسأله باهتمام: «أنت من أنهي طريقة؟ وده لبس مين؟»

وفتح الرجل عينيه وقال: «احنا مش طريقة، احنا ولاد السلطان حامد، مالناش طريقة.»

وبدَتْ لي إجابتُه عادية جدًّا لا تستدعي حتى مجرد التعليق.

ولكني في اللحظة التالية كنت أنتفض.

وجلستُ على قرافيصي وأمسكتُ الرجل من يديه وأنا أستحلفه أن يروي لي كل شيء عن السلطان.

واستمع لي الرجل وهو يحدِّق ناحيتي بعينيه المغلقتين حتى خُيِّل إليَّ من طول ما جلس أنه بلا حراك، ولكن بعد أن انتهيتُ رفع رأسَه وواجَهَني، كانتْ عيناه محمرَّتين، ولكنه لم يكن يبكي وصرخ فيَّ فجأة: «وتتهجم على السلطان بالشكل ده ليه؟!»
وأفهمتُه بخفوت أني لا أتهجَّم، أنا فقط أسأل.

وعاد يقول بغلظة وغضب: «وأنت مالك وماله؟! ما تخليك في حالك وتسيب الناس في حالها!»

وأجفلتُ.
وقال جدي: «مافيهاش حاجة يا سيدنا، دا بيسأل، هو السؤال حرام؟! قول له.»

وفجأة أيضًا سكت الرجل، وسقط رأسُه على صدره وهو يقول بصوت باكٍ وكأنه يؤنِّب نفسَه: «أيوه، أقول له، أقول له، أقول له على حبيبي السلطان، دا كان يا بني راجل مبروك.»

فقلتُ بانفعال: «مبروك ازاي؟ له معجزات؟»

فقال: «مبروك! ما تعرفشي يعني إيه مبروك؟! أمال أفندي إيه؟! بقى اللي شتِّت العدوِّين ما يبقاش مبروك؟! بقى اللي هزم الكُفَّار ما يبقاش مبروك؟! أمال أنت اللي مبروك؟!»

فقلت وأنا ألهث: «مين العدوِّين دول؟»
فصرخ فيَّ: «ما نتش عارف مِين العدوِّين؟! حد ما يعرفش العدوِّين؟! دا أبو باع طويل ومدد واسع هو اللي هزمهم، يا بو مدد واسع، شالله يا اهل الله، شالله يا سلطان حامد، يا هازم الكَفَرة، مدد يا حبيبي يا سلطان، مدد على طول الماداد ماداد!»
وكان صوتُه قد ارتفع حتى قارَبَ الأذان، ومضى يقول وحنجرته الكبيرة تتلاعب هابطة صاعدة بارزة كالورم من رقبته الطويلة: «ماداد يا سلطان يا بو مدد واسع، ماداد على طول المدد، ماداد يا بو مقامات عالية في مصر وسوهاج وأشمون وكل البر، الناس لها مقام واحد وأنت ليك ألف، يا حبيبي مداد.»

ولم نجرؤ على قطع الرُّوحانية التي انتابتْه وكان واضحًا أنه لا يهلوس كما يفعل المجاذيب في الموائد، كان يبدو صادقًا ويبكي بكاءً حقيقيًّا.

وحين هدَأَ واطمأْنَنْتُ إلى أنَّ هدوءه دائم عدتُ أسأله، وأدهشني أنه راح يُجِيبني كالمغلوب على أمره وبصوت يحفِل بالندم والتوبة، ولكن إجاباته لم تشفِ غليلي، وقال شيئًا كهذا: «لما الغُزاة العدوِّين هجموا على مصر، قام لهم السلطان حامد، وأصحابه، وقال لهم والله ما تدخلوا إلا على جثتي.

بصوا العدوِّين لقوه بجلابية استهتروا بيه، طلع له واحد منهم ورفع عليه سيفه شد منه السيف وتناه، جه العدو يزقُّه فحس أن الجبل يتحرك وهو لم يتحرك عن مطرحه قيراط، طلع له عشرة يزقُّوا فيه ما ينزق، بص قائدهم لقي رجليه غارزة في تراب البر ورأسه محصله عند عنان السماء وبيقول: «والله لو جبتوا قد جيشكم ده آلافات ما تقدر جيوش الدنيا كليتها تلحلحني عن تراب البر»، فضلم يفكروا يعملوا إيه في غريمهم ده، نط عجوز منهم وقال لهم: أنا لفيت الطريق يا رفاقه، وعرفت أجيب داغه، قالوا: ازاي؟ قال دا جسمه طاهر ما يأثر فيه السيف طول ما هو طاهر ما ياخد السلاح فيه إلَّا لما يتنجِّس، قالوا: ازاي؟ قال أنا الكفيل، أنا ح بول لكم على رجله أنجسها، والشاطر اللي ورا بولي يضرب بالسيف، وقف العجوز النجس يبول على رجله ومن وراءه سيف غدار ضرب ضربة طير الرِّجْل، قال لهم سلطاننا حامد: «وإيه يعني؟! دي رجل راحتْ ولسه ليه رِجْل.» ورجع خطوة، وبالطريقة هياها قطعوا له إيد، ضحك وقال لهم: «ما لسه لي إيد! والله يا كفار يا عدوِّين، لأورِّيكم، ولم أخلي فيكم إيد ماسكة إيد!» وفضل العجوز النجس يتبول والسيوف وراه تندب، وجسمه الطاهر في كل بلد ان دارت فيها الحرب يتقطع واللي غفل عنه العدوِّين ان كل حتة انقطعتْ كانت بتكبر وتبقى راجل يحارب الكفرة ويهجم على العدوين ويقول أنا ابن أبونا حامد، أنا السلطان، أنا اللي ح وريكم نجوم حمرا في عز الضهر! وقطَّعوه قطع ملايين، وكل قطعة بقتْ راجل، ولما حصَّلوا رأسه كانوا حصَّلوا الشام، وكانوا ولاده بقم آلافات، قاموا على العدوِّين وكل واحد يتلم على واحد ويشيله من فوق راسه ويرميه في قاع البحر.
ولما خلص العدوِّين واتنضف البر قال: «نحمدك يا رب!» وطلع منه سر الإله على طول.»

ونام الرجل فجأة.

وجدتُ رأسَه يسقط على صدره وشخيره يتصاعَد بلا سابق إنذار.

ولم أَكَدْ أستعيد حكايته لأفكِّر فيها وأستعيد التاريخ لأخمِّن مَن يكون «العدوِّين» حتى وجدتُ رأس الرجل ذا العمامة الحمراء يرتفع مرة واحدة وصاحبه يقول وكأنَّه يتكلَّم وهو نائم: «وحِّد الله، سيبك! قول: يا باسط، اللي يزرع الجميل عمره ما يحصد غدر، والناس ما بتنساش، قدِّم لهم السبت تلاقي ألف حد قدامك، وكله فدا السلطان، ماداد يا سلطان يا حبيبي على طول المدد ماداد!»


٧
هناك طريقة مشهورة لجعل السلحفاة تتحرَّك باستمرار؛ وذلك بأن نربط على ظهرها عصًا طويلة نضع في نهايتها طعامًا تراه السلحفاة فتتحرَّك للوصول إليه، وبالطبع لا تَصِله أبدًا؛ ولهذا تستمر تتحرك.

نحن مثل هذه السلحفاة، لا بد لكي نتحرَّك أن يكون ثمة أمل في متناول أبصارنا نحاول الوصول إليه، ولكننا أحيانًا لا نرى الأمل، تخفيه عنَّا أحداث الحياة فنتوقَّف، لا يائسين، ولكن لكي نبحث عن الأمل، ولا بد للبحث عن الأمل أن يكون لدينا «أمل» قوي في العثور عليه، فترات البحث عن الأمل هذه يسمِّيها الناس اليأس، بل ويُغالون ويضعون اليأس كشيء رأسه برأس الأمل سواءً بسواء، مع أن الحياة كما نرى أمل متصل، وحركتنا مستمرة، إمَّا لتحقيق الأمل أو العثور عليه، بل فترات البحث عن الأمل هذه التي يسمُّونها اليأس فترات يكون فيها الإنسان أشدَّ تفاؤلًا وأكثر حركة من المؤمِّل.

والباحث عن الأمل أو اليأس كما يقولون أشد حرصًا على الأمل ممَّن عنده أمل، والذي لا يملك القرش أكثر حرصًا عليه ممَّن يملكه، بل إنَّ المؤمِّل قد يضيع منه الأمل، أمَّا الباحث عن الأمل فإنه لا يفقد الأمل أبدًا في العثور على الأمل، اليأس أشدُّ تفاؤلًا من المؤمِّل، ولو كان أقلَّ تفاؤلًا لمات في الحال أو لانتحر.

وطوال هذه السنين التي كنتُ آكل فيها وأتخن — وقد تركتُ قضية السلطان — كنت في الحقية لم أيأس من العثور لها على حلٍّ، كل ما حدث أنني كنتُ أتحرَّك يحدوني أمل ما، ولكن الحكيم الطيب حين أراني أصابعه وسألني ذلك السؤال ضاع من أمام عيني الأمل، وضياع الأمل ليس بالأمر السهل، لا بد له دائمًا عن أسباب في غاية المنطق والمعقولية.

وحاول أن تناقِش «يائسًا» ما، فسوف تجِدُ ليأسِه أسبابًا في غاية القوة، ولكنَّك سوف تجِدُه أيضًا يبحث عن الأمل، وأن يعثر الإنسان على الأمل مرة أخرى مسألة أحيانًا لا تحتاج إلى منطق ومعقولية، ولنأخذ حالتي مثلًا.

لم يكن كلام الرجل المجذوب معقولًا ولا منطقيًّا، وليس له وجاهة كلام الطبيب، ولكن كم هي غريبة أمور الدنيا! فبلا مقدِّمات أو علامات وجدتُ أشياء مكتومة في صدري ومختزنة قد تراخَتْ فجأةً وانعكستْ، وحفِلَتْ نفسي باتِّساع وتفتُّح لا حدَّ لهما، وأحسسْتُ أنَّ الأمر لا يحتمل أكثر من أنْ أمُدَّ يدي وآتِي بحلٍّ لمشكلة السلطان.

كان شيء ما قد حدث بعدَما استمعتُ طويلًا إلى تخريفات المجذوب، شيء وكأنني كنتُ أشكُّ في وجود الله مثلًا، ويحيِّرني أمرُه ولا أستطيع أن أجزم بوجوده أو عدمه، وفجأة عثرتُ على تلسكوب غريب ممكن أن أنظر منه فأرى السماء، وأتحقَّق من وجود الله!

ولم آخُذْ تخريفات المجذوب على أنها تخريفات، أخدتُها من زاوية أخرى، فلا بد أن السلطان حامد هذا كان من نوعٍ ما عاش ومات، كما يعيش الناس ويموتون، ولكن أية حياة هذه؟! وأيُّ رجل هذا؟! وتُرَى ماذا فعله حتى يحتلَّ من نفوس الناس تلك المكانة الرهيبة؟! وحتى يُجَنَّ أناس ويُجْذَبوا حبًّا فيه؟! وتُنسَج حوله الخرافات والأساطير، وتُقام له مئات الأضرحة في مئات البلاد وتُضِيء كل ليلة بعشرات الشموع، مئات الليالي، وربما لمئات السنين؟!

وأمرٌ آخَر، فأن تعمَلَ طيِّبًا مسألة قد تخصُّك أنت وحدك، ولكن أن يقدِّر الناس أعمالك؛ وبالتالي يقدِّروك مسألة أخرى، فالدنيا حافِلة بالطيِّبِين الذين عاشوا للناس وماتوا من أجلهم فلماذا كلُّهم لا يُقدَّرون؟! لماذا يُقدَّر البعض دون البعض، وعلى أيِّ أساس إذن يختار ملايين الناس من أعمالك ما يستحق التقدير وما لا يستحق؟ ولماذا يُصبِح بعض الناس من معبودي الجماهير — كما يقولون — بينما لا يكونون هم أشرف الناس، ولا أطيب الناس، ولا أكثر حبًّا للناس وتضحية من أجلهم؟!
ولم أكن أدري وأنا أقلِّب هذه الأسئلة كلَّها في رأسي أنني ممكن أن أجِدَ الإجابة عليها عند روجيه كلمان!

كنتُ قد عدتُ إلى القاهرة من الإجازة القصيرة، وكلِّي تفتُّح لا لمسألة السلطان حامد وحدها، ولكن للحياة نفسها.

وكم أدركتُ خطئي لأني ظلِلْتُ فترةً طويلة من حياتي لا أفكِّر إلَّا فيها وحدها! فكما يقولون قد تجد ما تفكِّر فيه فيما لا تفكِّر فيه، وقد تجد ما لا تفكِّر فيه فيما تفكِّر فيه.

لا بد أن هذه الحكمة صحيحة إلى حدٍّ ما، ولو إلى الحد الذي يجعلني أومن أن لقائي بمدام إنترناسيونال كان مجديًا، وبالمناسبة لم يكن اسمها إنترناسيونال، كان اسمها «جين»، ولم أعرف إلى الآن جنسيتها، فأحيانًا كانت تقول إنها هولندية، والباسبور الذي معها كان من دوقية لوكسومبرج، وتقول: إنَّ باريس هي محل إقامتها، وحين عرَفْتُها كانتْ قادمةً من جنوب أفريقيا في طريقها إلى زوجها التشيكوسلوفاكي الذي يعمل مهندس مناجم في بولندا، وبالشرف، أني لا أبالغ؛ فهي نفسُها لم تكن تجد غرابةً في هذا، كانت تهزُّ كتفَيْها ببساطة وتقول: أنا إنترناسيونال، أمَّا كيف عرَفْتُها، فالمسألة في بساطة جنسيتها، الصُّدَف المحضة دفعتْني لأن أزور الإسماعيلية عقب الاعتداء الثلاثي على مصر، والصُّدَف المحضة هي التي دفعتْني لأن أقابِل أحد أصدقائي الأطباء في مطعم اللوكاندة التي كنتُ أنزل فيها، والصُّدَف المحضة هي التي دفعتْ صديقي هذا لأن تتولَّاه «نوبة شهامة» ويدعوني لأن أُقِيم معه في حجرته بمستشفى الإسماعيلية وكان يعمل فيه طبيبًا مقيمًا، وأنا أحب جوَّ المستشفيات والملابس البِيض الحِسان، ورائحة اليزول إذا جاءتْ إلى أنفي من بعيد وكانتْ لطيفةً خفيفةً.

وهناك عرَفْتُ مدام انترناسيونال، كانتْ إحدى مرضى المستشفى، وكانتْ موضوعة تحت الحراسة، فقد كانتْ أحدَ ركَّاب الباخرة «كارولينا» السويدية التي حجزها الاعتداء الغاشم في مياه القنال.

وكانت جين هذه ملحوسة لحسة منقطعة النظير، فهي لم تكن مريضة، ولكنها حاولت الانتحار في الباخرة، وأنقذوها في أول لحظة، ولكنها ادَّعَتْ أنهم جاءوا متأخِّرين بعدما سرى الأسبرين في جسمها، وأنَّ قلْبَها ما لم يعمل له «رسم» سيتوقَّف في الحال، وإذا عرَفْنا أنَّ الباخرة لم يكن فيها جهاز رسم قلب كهربائي أدركْنا أهدافَ مدام انترناسيونال، كان هدفها أن تهبط إلى البر وتعيش في مصر؛ إذْ كانتْ قد زارتْ تسعًا وثلاثين بلدة من بلاد العالم وكانتْ تريد أن تكملها الأربعين لتستطيع إذا عادتْ إلى باريس أن تحكي لصديقاتها عمَّا رأَتْه في الأربعين.

وسألتُها: «ألستِ ذاهبةً إلى زوجك في بولندا؟»

فقالتْ: «لا، نحن نلتقي على الدوام في باريس، فأنا لا أستطيع أن أحيا في غير باريس.»

وقلتُ لها مرة: «لم لا تفكِّرين في هدفٍ لحياتك؟»

فقالتْ: «كيف أفعل هذا وهدفي في الحياة أن أحيا بلا تفكير؟!»

ولو لم تقُلْ ذلك بطريقتها البادية الصنعة لحسبْتُها فيلسوفة، أو من المفكِّرين، وكان صديقي الطبيب لا يكاد يستقر في الحجرة أثناء الليل أو النهار خلال الأيام الثلاثة التي مكثتُها في المستشفى، ما تكاد تمضي دقيقة حتى نسمع دقًّا: «الخواجاية عندها مغص يا دكتور»، ويذهب صديقي فلا يجد مغصًا ولا إسهالًا، ولا يكاد يعود حتى يعود الدق من جديد: «الخواجاية عندها احتباس في البول.»

وكنت كثيرًا ما أذهب معه، ولم يكن صديقي ضيقًا بها، كانتْ شيئًا جديدًا في حياة المستشفى الروتينية وحياته، وكثيرًا ما جلسنا نتحدَّث، وكثيرًا ما حمَلَنا الحديثُ بعيدًا، إلى أبعد من جدران المستشفى ومأساة الحرب، وأخطأتُ مرة وذكرتُ لها حكاية السلطان، وكأنَّها كانتُ تنتظر طول عمرها أن يقول لها أحد شيئًا كهذا، فإلى أن انتُزِعتْ من سرير المستشفى انتزاعًا إلى الباخرة كانتْ لا تزال تسألني وتُلْحِف، وتدقِّق، وتروع للتفاصيل وتقول: «أوه! يا سلام!» و«يا سلام» هذه هي الكلمة الوحيدة التي تعلَّمَتْها أثناء إقامتها بالمستشفى.

ولم تكتَفِ بعنواني المكتوب الذي أعطَيْتُه لها، ولكنَّها ظلَّتْ تردِّده حتى حفِظَتْه عن ظهر قلب.

وودَّعَتْني وهي تقول: «حتمًا سأكتب لك.»

ولكن لم أتوقَّع أبدًا أن تفعل.

وعدتُ إلى عملي، وإلى القاهرة، وإلى الساعات اليومية الثابتة التي كنتُ أقضيها في دار الكتب.

كنتُ قد أمسكتُ بخيطٍ ما، وكان تردُّدي على الدار هدفُه التأكُّد منه، فبحثتُ عن أسماء جميع السلاطين الذين حكموا مصر أو حتى مَن قدِموا إليها غازين أو زائرين، بل حتى أسماء سلاطين آل عثمان راجعْتُها كلَّها، ولم أجِدْ ظلًّا ولا إشارة واحدة لسلطان باسم السلطان حامد.

وحتى هذا الخيط الواهن انقطع، وبهذا فقدتُ كلَّ أثر للسلطان.

غير أنَّ حماسي لم يفتر أو يقل.

يومان في الأسبوع كنتُ أذهب إلى مكتبة الجامعة، ومِن هناك إلى قسم التاريخ في كلية الآداب، وأخطئ إذا قلتُ إنَّ جهودي كانتْ تذهب عبثًا؛ إذْ خلال شهور طويلة كنتُ قد تعلَّمتُ أشياء عن تاريخنا لم أكن أحلم بمعرفتها، وكنتُ قد خرجتُ بعدة صداقات، ليس أقلها صداقة متينة كانت بيني وبين «علي بك» القزم الذي لا يكاد طوله يزيد على المتر والذي يبيع الكتب القديمة رائحًا غاديًا بين العتبة والأزهر، وكانتِ الحكاية قد تسرَّبَتْ مني إلى أصدقائي وإلى معارِفهم، حتى كنت أحيانًا أجِدُ أناسًا لا أعرفهم يبتسمون لي إذا قابلوني في مكان عام ويقولون: «هيه! عملت إيه في حكاية السلطان؟»

ونفس السؤال كنتُ أسمعه من شبَّان أهل بلدنا وطلبتها، وحتى الكهول، ومع أن الوضع كان قد انقلب، وانتقلتُ من الطفل السائل إلى الرجل المسئول، إلَّا أنَّ إجابتي كانتْ لا تكاد تختلف عن الإجابات التي كنتُ أُجَنُّ لها وأنا صغير.

وما أكثر ما كان يصلني من أفكار واقتراحات! يضرب أحدهم كتفي بشدة ويقول: «وجدتُ لك كتابًا يصلح»، ويأخذني آخَر بالحضن ويقول: «خلاص، عرفت حكاية السلطان»، ويحكي، وإذا به سلطان غير السلطان، وكنتُ أتوقَّع أي شيء إلَّا أن أفتَحَ صندوقَ الخطابات مرة فأجد خطابًا راقدًا في قاعِه وعليه طابع بريد أجنبي.

كان الخطاب من مدام انترناسيونال.

وما كدتُ أفتَحُه حتى تساقَط منه شيء، ولكني شُغِلْتُ عنه بقراءة الخطاب، ولم أكن أتوقَّع أن يكون لها مثل ذلك الخط الجميل، ولم لا أقول: إني ما كدتُ أعرف أنَّ الخطاب منها حتى وجدتُها تلوح في خاطري، وأحس أني حقيقة افتقدتُها، أحيانًا يبدو الشخص المتعِب جذَّابًا من بعيد.

وعلى عكس طريقتها في الكلام كتلك الطريقة التي تظن معها أنها لا تتحدث، ولكنها تمثِّل، كان أسلوبُها في الكتابة رزينًا، حتى كدتُ أظنُّ أنها أصبحتْ أرملة، والأغرب من هذا كانت تتحدَّث عن السلطان!

قالت إنها منذ أن تحركتْ بها الباخرة وغادرتْ قنال السويس، وهي لا تفكِّر إلَّا في مشكلة السلطان، وقد أحسَّتْ — وبنصِّ كلامِها — لأول مرة أنها وجدتْ شيئًا يستحق أن تفكِّر فيه، ولأسخر منها ما شئتُ، ولكنَّها فعلتْ، والنتيجة مُرفَقة بالخطاب.

وتأمَّلْتُ ما سقط من يدي حين فتحتُ المظروف، فإذا به صفحات من كتاب مطبوع.

وعدتُ أكمل قراءة الخطاب الغريب:

لا تَسَلْ كيف عثرتُ على هذه النتيجة، فمنذ عودتي إلى باريس وأنا وصديقاتي لم نستَرِحْ لحظة واحدة، ولم يكن لنا همٌّ طول الوقت إلَّا البحث في مشكلة السلطان، وكنتُ أريد أن أحدِّثَك بالتفصيل عن الجهود الكبيرة التي بذلناها لولا أني أُوثِر أن أُخْبِرَك بأهمِّ شيء، ففي الشهر الماضي صدر عن إحدى دُور النشر هنا كتاب يُعتَبَر وثيقةً تاريخيةً مهمَّةً، وهو عبارة عن مجموعة الخطابات التي تلقَّاها المسيو جي دي روان من صديقه روجيه كليمان، وروجيه كليمان كان أحد علماء الآثار الذين رافقوا حملة نابليون على مصر، ويُقال إنَّه لم يَعُدْ وإنَّه استَمْصَر وارتدى الملابس الوطنية وأقام هناك، وها أنا ذا أُرْسِل لك مع خطابي هذا بعض صفحات منتزعة من الكتاب وهي تحتوي على الخطاب الأخير، ولعِلْمِك أنَّ الذي قام على تحقيق هذا الكتاب ومراجعته وتدوين الملاحظات عليه هو الدكتور س. مارتان عضو الأكاديمي فرانسيز، وبهذا تستطيع أن تطمئنَّ تمامًا إلى سلامة كل ما ورد فيه، وأنا لا أعرف إذا كان ما جاء في الخطاب الذي أرسَلَه العالِم الفرنسي ما يكفي لحلِّ لغزِ السلطان أم لا، ولكن لا أريد أن أمنعك من قراءة الشيء الذي انتظرتَه طويلًا، وأظنُّك في شغف شديد للاطِّلاع عليه.

أرجوك، اكتب لي حالًا وأخبرني بكل شيء.

عزيزتك

جين إنترناشيونال

ملحوظة: هل عندكم حقيقة قرية اسمها «شطانوف»؟

وهل لا تزال موجودة إلى اليوم؟ صِفْها لي في خطابك أرجوك.

٨
والواقع أني لم أكن في شغف شديد لقراءة الصفحات، كانتْ حالتي أقرب ما تكون إلى الذهول، لم يكن ذهول الدهشة، ولكنَّه ذهول الاطمئنان، فأنا لم أُصارِح أحدًا برأيي هذا، ولكني كنتُ كثيرًا ما أفكِّر فيه، كنتُ أحيانًا ينتابني خوفٌ من نوعٍ ما، خوفٌ أن أكون قد ضخَّمتُ الموضوع أكثر ممَّا هو في الواقع، خوف أن يثبت لي في النهاية أنَّ السلطان حامد هذا ليس له لغز ولا مشكلة، وأنني أنا الذي صنعتُ اللغز وخلَقْتُ الإشكال، وممكن أن لا يثبت أن هناك سِرًّا وراءه ولا يحزنون.

ولو حدث هذا كنتُ أُصِبْتُ حقيقة بالذهول.

لحظتَها كنت أحسُّ براحةٍ غريبة، راحةٍ تمنعني عن الحركة وحتى عن محاولة معرفة الحل، وكأنَّه كان يكفيني أن أعرف وأتأكَّد أنَّ هناك حقيقةً سِرًّا، راحة مضتْ تدفعني إلى أن أفكر في أي شيء إلَّا التفكير في تصفُّح الأوراق.

وخطَرَتْ لي شطانوف، لماذا لم أتذكَّر أنَّ جدي الأكبر طالَمَا حدَّثني عنها، وطالَمَا ذكَّرني أن لنا هناك أقرباء، وأنَّ جدي الأعلى غادَرَها في أيام القحط، واستقرَّ في بلدنا، ولماذا لا يكون السلطان حامد قد أقام فترة في شطانوف في الزمن القديم، ولماذا لا أكون من أحفاده؟!

وقلتُ أرحَمُ نفسي وأقرأ الخطاب.

ولكنِّي وجدتُ الصفحات مكتوبةً بالفرنسية وأنَّ محصولي فيها ضعيف؛ ولذا أسرعتُ إلى أحد الأصدقاء الضليعين فيها، واشتركنا في ترجمته، وهكذا كانت بدايته:

الخطاب رقم ١٠

هذا هو الخطاب الأخير في المجموعة، وإنْ كان بعض الناس يعتقدون أنه لم يكن الأخير، وأنَّ الأستاذ كليمان أرسل بعده خطابًا إلى صديقه المسيو دي روان ولكن الصديق مزَّقَه عقب قراءته لسبب لا يزال مجهولًا.

أمَّا مصير روجيه كليمان بعد كتابته هذا الخطاب فليس معروفًا على وجه الدقة، ومع أنَّ بعض الثقات يؤكِّدون أنَّه عاد إلى فرنسا في أُخْرَيات أيامه حيث وافاه الأجل، فإنني شخصيًّا ضد هذا الرأي.

س. مارتان

وها هو الخطاب:

القاهرة في ٢٠ يونيو سنة ١٨٠١

عزيزي جي

لا زلتُ لا أعرف إنَّ كان خطابي الأخير قد وَصَلَك أم ضلَّ الطريق إليك، ولا أعلم إنْ كنتَ قد كتبتَ ردًّا عليه وفُقِد هو الآخَر، أم أنَّنِي لا أزال سيِّئ الظن بمصلحة بريدنا الموقَّرة.

على العموم، وسواءً ألَقِيَ خطابي هذا مصيرَ سابِقِه أم وَصَلَك سالِمًا، فإنني أحسُّ أني لا بد أن أكتب لك، حتى ولو كنتُ متأكِّدًا أنه لن يصلك، فهناك أشياء كثيرة تحدث داخل نفسي، وأُرِيد أن أُفْضِيَ بها لصديق، فكما تعلم أنا لا أجرؤ على أن أهمِسَ لأحد هنا بما يَدُور في خلدي، أعلَمُ أنَّك ستَسْخَر مني كعادتك، ولكن، أرجوك حاول أن تفهمني، فالناس هنا لا يريدون.

طلبتَ مني في خطابك الذي أرسلتَه منذ أكثر من ستة شهور أن أحدِّثَك عن مصر والمصريين، وذلك الشعب الذي يحيا على ضفاف النيل، ومشكلتي يا صديقي العزيز، هي هذا الشعب.

 

يمكن الاطلاع على الجزء الأول من النص عبر الرابط التالي : "سره الباتع الجزء الأول"