السبت  04 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شمعةٌ تربكُ جبروت الليل محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2014-10-28 11:00:11 AM
شمعةٌ تربكُ جبروت الليل
 محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
صورة ارشيفية

 ضوء في الدَّغْل

حين دعاني صديقي أحمد زكارنة منذ أشهر إلى كتابة عمودٍ دائم في جريدة الحدث الفلسطينيّ وافقْتُ، وانتابني شعور جميلٌ، لأنِّي سأفتح نافذة مباشرة تصل فلسطين بالجزائر، وتصلني منها أخبار هذا الشعبِ الكبير الذي يؤكِّد أمامَ أنظار العالم أنَّ قولة محمود درويش"على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة" ليستْ مجرَّد كلامٍ أو خيال شعريّ بل هي حقيقة متغلغلة في كلِّ فلسطينيٍّ يظلُّ، رغم كلِّ أشكال الموت التي يراها وتحاصره، متطلِّعا إلى غدٍ يليق بمخيِّلته الخضراء وبروحهِ الممتلئة بكلِّ أسبابِ الحياة.

وافقتُ على الكتابة في الحدث بمحبة، ورحتُ أفكِّر في عنوانٍ للعمود، فخلصتُ إلى عبارة "ضوء في الدَّغل". وقد كانتْ الأحداث الأخيرة في غزّة الخلفية التي دفعتني لوضع هذا العنوان، إذْ كنتُ أشعر، وأنا أرى كلَّ بوابات الموت تفتح على الفلسطينيين من ألف جهة، بأنَّ عالمنا الحديث هو مجرّد دغلٍ كبير، تحكمه أقسى قوانين الغاب. بل أحسستُ أنَّ حضارتنا المعاصرة رغم ما تنادي به من قيم الإنسانية لا تزالُ تقسم الناس تقسيمات عنصرية إلى بشر أعلى وبشر أدنى. لكني رغم كلِّ هذا السّواد المخيِّم تركتُ فسحة للضوء، لإيماني أنَّ في الإنسان دائما إمكانية الانتصار للحقيقة، الحقيقة التي تعاديها أطرافٌ تزعم نصرة الإنسان، لكنّها تقضي عليه في كلِّ مرة باسم شرعية مزيّفة.

لقد حاولتُ أنْ أجعل من زاويتي نافذة بين المشرق والمغرب، بين العربيّ المشرقيّ والمغربي الأمازيغيّ والعربيّ، بين ثقافة وثقافة. وذلك لقناعتي بأنَّ كلَّ ثقافة مهما انتمتْ إلى دائرة هوية واحدة فهي تحتفظ بكثيرٍ من خصوصياتها التي تجعلها ثقافة مختلفة. كتبتُ في هذا الباب مقال "هل يعرفنا الإخوة في المشرق؟؟"، وقد تأكّدتْ لي الإجابة مثالا في الظهور الأخير لأجراد يوغرطة في عرب آيدول، والذي وصف بالغرابة من طرف اللجنة لجزائريته المفرطة، ولأنَّ اللجنة لا تعرف محمد الطاهر الفرقاني، ولا تعرف الطبوع الفنيّة الجزائرية ولا تعرف المحكي الجزائري، إذ كان يترجم ليوغرطة كأنما يتكلم بلغة أجنبية. ولعلَّ هذه هي أزمتنا الثقافية عربيا، إذْ نحن أحاديون لأننا لا نشعر بالتنوُّع الرهيب الذي يعتملُ داخل عالمنا العربي، بل لأننا ننفي التنوُّع الفكري والفنيّ والعرقي والثيولوجيّ ونقضي عليه لأننا نرى فيه تهديدا لنا، بينما هو، في الحقيقة، سبب بقائنا واستمرارنا، لأنَّ الأمم تقدَّمتْ بتركيزها على الاختلاف لا على التشابه.

وإذ أعود إلى الحدثِ الفلسطيني كجريدة ناشئة، فالجميلُ فيها هو تنوُّعها، وأخْذُ ذلك التنوُّع ملمحا ثقافيا. وأقصد أنَّ جميع صفحاتها تشتغل على عرض الثقافة بمعناها الواسع، بما فيها ثقافة الحياة. وقد تعرَّفْتُ من خلال هذا على فلسطين أكثر، لا فلسطين التاريخية، ولا تلك التي نقرأ عنها في القصائد، وإنَّما فلسطين اليومية التي هي موجودة الآن. وإلى جانب هذا لابدَّ من الإشادة بما تمنحه الجريدة من صفحاتها للأدب والفكر والثقافة، وذلك من خلالِ أعمدة ومقالات يكتبُها أدباء ومفكرون أسعد دائما بقراءتهم. وهي بهذا ترسم طريقا صوب بناء الإنسان عن طريق ترسيخ الثقافة فيه، وتنمية حبِّه للحياة بواسطة تصحيح رؤيتها إليها.

ها هي الحدثُ تبلغ عاما وتحتفل بذكراها الأولى، بعد أنْ أشعلتْ في سماء فلسطين منذ شهور عديدة شمعة تربك جبروت الليل، وتجبر، رغم نورها اليتيم الصغير، الظلال الثقيلة على الانسحاب من عقلِ الإنسان.

أكتبُ هذه المرة لأعلن سعادتي بالكتابة للقارئ الفلسطيني منذ أشهر، وسأكون أكثر سعادة إذا سعد الفلسطيني بما أكتبُ له. خاصة وأنّ غايتنا هي إرباك الظلمات وطرد شياطينها التي تجثم على عقولٍ كثيرة فتأسرها داخل قوقعة التخلُّف والرّجعية والبؤس بمختلف تجلياته.

عام سعيد وذكرى طيبة يا جريدة الحدث الفلسطيني.